القضاء والإعلام .. إشكالية حقيقية (2 من 2)

إشكالية
مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

بعد المقال السابق هاتفني بعض أصحاب الفضيلة القضاة وبعض الإخوة الإعلاميين للتعليق على ما تضمنه المقال، وكان لكلٍ منهم رأيه محل التقدير، ومن أخطر الملاحظات التي وردتني من أحد القضاة أن فضيلته أكد لي أنه في إحدى القضايا تعرض القاضي لتهديد من أحد أطراف الدعوى بأن يقوموا بنشر وقائع وتفاصيل القضية في وسائل الإعلام، وأن يفضحوا القاضي ويشوهوا صورته إذا لم يستجب لوجهة نظرهم! وهذه القصة من أخطر مدلولات استخدام الإعلام وسيلة للنيل من القضاء والإساءة إليه، وتحقيق أغراض شخصية لبعض الإعلاميين ممن يرتبط بعلاقة بأحد أطراف القضية، فيتناول ما صدر عن القضاء من إجراءات أو أحكام من منطلقات شخصية، أو على أحسن احتمال فالإعلامي أحياناً ينصب نفسه جهة لتمييز الأحكام وتبيين خطئها من صوابها، والحق من الباطل منها، مع افتقاره إلى أدنى درجات التخصص والفهم في الشريعة والقانون في كثير من الأحيان. ونصت الأنظمة في المملكة على تحديد قنوات للطعن على الأحكام من ذوي الشأن الذين صدرت الأحكام في مواجهتهم، فلا يجوز لأي أحد أن يلجأ إلى غير تلك القنوات لمشاغبة أحكام القضاء النهائية ومناكفتها والتمرد عليها أياً كان. بل حتى يتبين للقارئ الكريم حساسية هذا الجانب أوضح له أن جميع القوانين تعتبر الحكم القضائي متى صدر عن محكمة مختصة واستوفى أوضاعه الشرعية والنظامية واكتسب الصفة القطعية، أنه يعتبر عنوان الحقيقة وفي حكم الأمر المقضي، ولا يجوز حتى لجهة قضائية أخرى أن تشكك فيه أو تمتنع عن قبول النتيجة التي قضى بها أو تعيد النظر فيها، وعلى سبيل المثال فحين كنت قاضياً في القضاء التأديبي في ديوان المظالم كانت تعرض علينا قضايا لبعض موظفي الدولة ممن صدر في حقهم أحكام جنائية من المحاكم وتطلب هيئة الرقابة معاقبتهم مسلكياً بناء على ذلك، وأحياناً يكون لنا ملاحظات على الحكم الذي بنيت عليه الدعوى التأديبية ولا نتفق معه من وجهة نظرنا في النتيجة التي انتهى إليها لوجود خلل في أسباب الحكم أو لغير ذلك، ومع هذا فكانت القاعدة المتقررة في القضاء التأديبي أن الحكم الجنائي له حجيته المطلقة في المحاكمة التأديبية، ولا يجوز للقاضي التأديبي أن يشكك في النتيجة التي انتهى إليها الحكم الجنائي ولا في الوقائع التي أثبتها، بل يعتبرها أمراً ثابتاً ويبني حكمه التأديبي عليها، ومع ذلك فالمحاكمة التأديبية مستقلة تماماً عن المحاكمة الجنائية فيحكم القاضي التأديبي بما يراه مناسباً من عقوبة تأديبية. إذا كانت المحاكم فيما بينها لا يجوز لها التعرض أو إعادة البحث أو التشكيك فيما صدر عن المحكمة المختصة؛ فكيف الأمر بعامة الناس ووسائل الإعلام؟! واستكمالا لما بدأته في الجزء الأول من ملاحظات بهذا الخصوص أوضح ما يلي: رابعاً: من المأمول أن ينتج عن المؤتمر الذي تنوي وزارة العدل عقده لمناقشة هذا الموضوع تحديد قواعد لتنظيم العلاقة بين القضاء والإعلام يقوم بوضع هذه القواعد متخصصون في كلا المجالين، بعد جلسات نقاش وتشاور يكون منطلقها الوحيد المصلحة العامة، والنظرة التكاملية بين القضاء والإعلام، على قاعدة ''وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان'' لأنه متى ما استقامت العلاقة بينهما فإن لذلك بلا شك نتائج خيرة لا تحصى على الأمة بكاملها. وهذه القواعد بلا شك ستراعي أن لكل من القضاء والإعلام رسالته السامية وأهدافه الكريمة، وأن طبيعة عمل كل منهما تتطلب قدراً من الاستقلال، فلا يؤثر الإعلام سلباً في القضاء ويسيء إليه، ولا يستنكف القضاء عن التواصل مع الإعلام بشفافية ووضوح تكفلها قواعد الشريعة وأحكامها ونصوص الأنظمة ذات الصلة. وأهم إشكالية ينبغي العناية بإيجاد حل لها، أن هناك تعارضا ولو ظاهراً بين ناحيتين هما: أ - ما نص عليه نظام المرافعات من أن الأصل في المحاكمات أن تكون علنية إلا ما استثني مما يرى القاضي كبعض الدعاوى الزوجية أو الجرائم البشعة أو نحو ذلك. ب - ما نص عليه نظام المطبوعات والنشر من عدم جواز نشر وقائع التحقيقات والمحاكمات إلا بإذن الجهة المختصة. وبالمناسبة فلي مع هذه الإشكالية وقفتان: 1- أنه ينبغي عند صياغة أي نظام التحقق من عدم وجود أي تعارض له مع نظام آخر ذي صلة به. 2- وأن نظام المطبوعات والنشر يحتاج عموماً إلى إعادة نظر لما يتضمنه من نصوص فضفاضة وعامة تفتح المجال واسعاً للاجتهاد والسلطة التقديرية التي قد تتجه للتوسعة والإفلات، وقد تتجه إلى التضييق والخنق على وسائل الإعلام. وفيما يتعلق بالقضاء فأعتقد أن الأصل هو علانية الجلسات تماما، وأن وسائل الإعلام أولى الجهات التي يحق لها الاطلاع وحضور الجلسات القضائية ونقل وقائعها للناس وهو ما يتوافر في كثير من الدول المتحضرة، من منطلق دور الإعلام في التوعية ونشر ثقافة الحقوق، ولأن الإعلام يعتبر صوت المجتمع الذي يجب أن يكون عالياً، وأن يكون له أيضاً دور في الرقابة على كل المرافق التي تمس حياته وشؤونه. ولا يخفى أن استشعار القاضي أن ما يقوم به من إجراءات سيكون معلناً للجميع أن ذلك ربما يؤدي إلى وجود نوع من الرقابة ـ في حدود المصلحة وبما لا يمس استقلال القضاء ـ وهذا بلا شك أحد أسباب النص على علانية الجلسات، فليس لدى القضاء النزيه والشرعي ما يخفيه أو يخشى من إعلانه إلا ما كان له مساس بحقوق وأعراض المتقاضين التي يحرص القاضي على حمايتها. وفي هذا الجانب ينبغي إيجاد الضوابط التي تضمن ممارسة الإعلام لدوره دون إساءة ولا نية لتوجيه الرأي العام وشحنه للتأثير في القضاء، ومن أهم الضوابط التي أراها: 1- التنسيق التام مع المحكمة والقاضي قبل النشر واستطلاع وجهة نظر المحكمة, وهذا يؤكد أهمية إيجاد قسم للإعلام والعلاقات العامة في كل محكمة يقوم هذا القسم بدور الرابط بين القاضي وبين وسائل الإعلام بحيث يكون القاضي في مأمن من أي تحريف لما يدلي به بخصوص القضية. كما أن موظفي هذا القسم يكونون تحت رقابة المحكمة. 2- أن يتولى هذا القسم ويتولى أيضاً نقل أخبار القضاء والقضايا إعلاميون لهم دراية وإلمام بالجوانب الشرعية والقانونية ويتم تدريبهم على أسلوب التعامل مع هذا النوع من الأخبار. 3- أن يكون نقل أخبار الجلسات نقلاً متجرداً من أي إساءة أو محاولة تأثير وخالياً من إقحام الإعلامي أو الجهة التابع لها من قناة تلفزيون أو صحيفة لوجهة نظرها في مجريات القضية وما يتخذه القاضي من إجراءات, ولا يجوز بأي حال انتقادها أو مناقشتها, فهذا الحق لا يجوز لوسائل الإعلام ممارسته, بل تتركه للجهات الأخرى بعد أن تصبح القضية علنية معلومة للجميع. 4- أنه ينبغي التفريق بين الصحافي العادي الذي ينقل أخبار القضايا والمحاكمات وبين الكاتب المتخصص في الشريعة أو القانون الذي يكتب مقالات تتضمن نقداً أو ملاحظات على إجراءات التقاضي أو الاجتهادات القضائية عموماً مما لا يكون مرتبطاً بقضايا معينة إلا على سبيل الاستشهاد بها، فمثل هذه الكتابات ينبغي الإفادة منها وأن تحرص الجهات القضائية على توظيفها لمصلحة عملية تطوير القضاء, وما كان منها يتضمن نقداً مفيداً يؤخذ به وما تضمن غلطاً في الفهم فيرد عليه دون أي إساءة للكاتب ولا تجريح ولا تشكيك بمقاصده والدخول في نيته. خامسا: أنه من الأهمية بمكان أن يستشعر كل من القضاة والإعلاميين في أعمالهم المسؤولية الجسيمة أمام الله - عز وجل - أولاً وفوق كل اعتبار، ثم أمام ولي الأمر وما تقتضيه مصلحة الأمة ودينها وأخلاقها وأمنها، فالقاضي حين يستشعر ذلك يعلم يقينا أنه يمثل أحكام الشرع ويقضي بما يعتقد أن الله - سبحانه - أمر به وفرضه، وأنه يجب أن يتحلى بالعدل والإحسان وأن يتعامل مع الناس بما فرض الله للمسلمين من حقوق فيما بينهم، فلا يمنعه حسن الخلق وبشاشة الوجه والإحسان في القول من الحكم بالعدل وأخذ الحق من الظالم للمظلوم وتعزير العاصي، وأن يتقي الله أن يؤتى الإسلام وأحكام الشرع من قبله، وأن تتهم الشريعة بالقصور أو الإعانة على المماطلة والظلم بسببه. كما يستشعر الإعلامي أن القضاء حصن حصين، وأن توقير أحكامه من تعظيم شعائر الله ومن طاعة ولي الأمر الواجبة، وأن يعلم أن مصلحة الأمة والدولة فوق كل اعتبار، وأن يبتعد عن حب الإثارة، وعن المنطلقات الشخصية في النشر والتناول، وعلى وسائل الإعلام أن تتذكر جيداً أن البيان والفصاحة وطريقة عرض المظلمة يكون لها تأثير سيئ على تضليل القضاء وطمس الحقيقة فلا تنشر وجهة نظر طرف وتغفل عن وجهة نظر الطرف الآخر، فالقاضي هو الذي حكم بعد أن سمع من الطرفين, ولا يغيب عنا قصة نبي الله داود - عليه السلام - حين غرّه طريقة عرض المشتكي شكواه فحكم له فوراً قبل أن يسمع رأي غريمه فعاتبه الله -عز وجل - على ذلك، قال تعالى: ''وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ* قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ* يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ'' ( سورة ص (21-26) . وختاماً أسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه والحمد لله هو حسبي ونعم الوكيل.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني