القضاء السعودي والإسلام المعتدل

أظهر معالي الشيخ العيسى – وهو رجل القضاء الذي نجح في قيادته باقتدار سابقاً، وعضو هيئة كبار العلماء بما تمثله الهيئة من مرجعية علمية شرعية كبرى - قدرات أذهلت المتابعين في دقة الفهم، وشمول التصور، وغزارة العلم، وحزم الشخصية، والاستيعاب التام لمبادئ الإسلام المعتدل المتسامح..

منذ أعلنت المملكة رؤيتها الوطنية الطموحة (2030)، بادرت الوزارات المعنية للكشف عن تفاصيل خططها، والعناوين الرئيسة للمحاور التي تعتزم السير نحو تطبيقها للتوافق مع «رؤية 2030»، وكانت وزارة العدل على قائمة الوزارات المعنية بتطبيق الرؤية، ويمكن أن تكون هي أهم وأخطر تلك الوزارات؛ لما يمثله القضاء في أي بلد من أهمية قصوى، ودور محوري في خطط التنمية والإصلاح والتطوير وحماية المكتسبات.

ومن جانب آخر، أعلن صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – في عدة مناسبات، تأكيد المملكة على المضي بعزم نحو تحقيق منهج الإسلام المعتدل، الذي يدرك كل مسلم أنه هو بالفعل الإسلام الحقيقي النقي، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشع بمبادئ العدل والتسامح ومكارم الأخلاق، وحماية الحقوق والحريات وكرامة بني الإنسان، قبل أن يتراكم عليه عبر عصور عديدة، غبار التشدد، وتعيث فيه أيادي التشويه، وتقدمه للناس إسلاماً متطرفاً عنيفاً يخنق الناس ويتتبع عوراتهم.

وبالفعل، بدأت كل الجهود الرسمية للمملكة وقرارات الدولة داخلياً وسياساتها خارجياً تسير نحو تحقيق هذه الغاية، وتقديم السعودية نفسها للعالم أنموذجاً للإسلام الصحيح، ولعل آخر تلك القرارات التاريخية منح المرأة حقها المشروع في قيادة السيارة، المتوافق مع أحكام الشريعة ومبادئ ومقررات حقوق الإنسان، بعد أن ظلّ هذا الملف يراوح زماناً تحكمه تخوفات غير مبررة.

وعلى صعيد الخطاب الإسلامي العالمي المنبعث من داخل السعودية بلاد الحرمين، بات ظاهراً للعيان بشكل واضح الجهود الدؤوبة لمعالي أمين رابطة العالم الإسلامي الشيخ الدكتور محمد العيسى، الذي لا يكاد يستقر ركبه إلا وقد غادر متوجهاً نحو وجهة عالمية غير تقليدية، مستهدفاً عقد اللقاءات التاريخية غير المسبوقة مع القيادات الدينية، ومراكز الحوار الديني والثقافي في أقطار العالم، لكل أتباع الديانات الأخرى، ينقل إليهم الرغبة العازمة للمملكة ولكل الدول الإسلامية المحبة للسلام والتعايش، في فتح قنوات للحوار، ودعوة للتوافق على المشتركات الإنسانية، ويكشف لهم ما أحرزته المملكة أخيراً من إنجازات غير مسبوقة نحو تحقيق الإسلام المليء بالتسامح والعدالة والرحمة، وصيانة حقوق الإنسان.

وقد أظهر معالي الشيخ العيسى – وهو رجل القضاء الذي نجح في قيادته باقتدار سابقاً، وعضو هيئة كبار العلماء بما تمثله الهيئة من مرجعية علمية شرعية كبرى - قدرات أذهلت المتابعين في دقة الفهم، وشمول التصور، وغزارة العلم، وحزم الشخصية، والاستيعاب التام لمبادئ الإسلام المعتدل المتسامح، والقناعة بضرورة نقلها للعالم أجمع.

كل هذه الخطط العظيمة، والرؤى الطموحة، والمنجزات غير المسبوقة، تجعلني أتساءل: هل القضاء السعودي بوضعه الراهن مستوعب تماماً كل ما يجري من تحولات تاريخية دينية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية في المملكة؟ وهل هو قادرٌ ومهيأ تماماً للاضطلاع بدوره في تحقيقها – وهو الدور الأهم والأكثر أثراً؟

إن ما أعلنته وزارة العدل من مبادرات في إطار تحقيق «رؤية 2030» تعتبر بالفعل منجزات مهمة يطمح كل مواطن إلى تحقيقها؛ إلا أن ما أقصده هنا أمر يختلف جذرياً عن مسائل (سرعة إنجاز القضايا – وتفعيل دور التقنية في الإجراءات.. وغير ذلك من أهداف لا تتجاوز النواحي الشكلية.

ما أقصده هنا هو دور القضاء السعودي المنتظر منه في تحقيق رؤية المملكة بالوصول إلى تطبيق الإسلام المعتدل المتسامح.

وعلى سبيل المثال، فقد انتقد كثير من المختصين قبل مدة بعض ما جاء في المبادئ، التي نشرتها وزارة العدل مما صدر عن مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة – وفق تنظيمه السابق – وعن المحكمة العليا، لما لاحظه أولئك المختصون من وجود مبادئ باتت غير ملائمة لما تشهده المملكة من تحولات حقوقية واجتماعية، وتغيير في الاجتهادات الفقهية الصادرة عن جهة الفتوى الرسمية.

وفي عهد الملك عبدالله رحمه الله رحمة واسعة، كان قد أصدر أمرا بتشكيل لجنة لتدوين الأحكام والاجتهادات القضائية، وباشرت تلك اللجنة أعمالها، وما زالت لم يصدر عنها إلى اليوم أي شيء في هذا الصدد، كما أن مما يعلمه المتخصصون أن الواضح من هدف هذه اللجنة، مجرد تدوين للاجتهادات والمبادئ التي تدعو الحاجة إليها، دون الإلزام بذلك، وبالتالي فلا يعتبر عمل هذه اللجنة جزءاً من مشروع تقنين ملزمٍ للقضاء؛ إذ ليس التقنين والإلزام مطروحاً إلى اليوم.

وعلى ذلك فإني أعتقد أن القضاء السعودي يحتاج لجهود جبارة وكثيرة ليكون مواكباً لتحقيق توجه المملكة نحو الإسلام المعتدل المتسامح، ومن تلك الجهود ما يلي على سبيل المثال:

مراجعة آلية اختيار وشروط تعيين القضاة، وتأهيلهم قبل وبعد التعيين.

مراجعة الاجتهادات القضائية القائمة وعرضها على متطلبات المرحلة الحالية، والتحقق من مدى قربها أو بعدها عن روح الإسلام المعتدل، خاصة في جانب القضايا الجنائية وقضايا الأحوال الشخصية وحقوق المرأة والطفل ونحوها.

مراجعة مدى الحاجة لوجود مشروع تقنين قضائي ملزم يحدّ من الاجتهادات غير الموفقة؛ لأنه لا يخفى على أدنى مطلع أنه يندر جداً وجود قاض واحد ممن يتصف بصفات المجتهد التي نص عليها فقهاء الشريعة، بل كل القضاة حالياً مقلدون وطلبة علم لا يدعون لأنفسهم أنهم أهل للاجتهاد، ما يعني افتقارهم وحاجتهم الماسة لمشروع تقنين ملزم.

مراجعة مدى استعداد القضاة الحاليين واستيعابهم هذه الأهداف المشروعة والرسالة السامية، وهل بالفعل كلهم مستعدون لتحقيقها؟

هذا ما أتمنى تحقيقه، وأتطلع لمراجعته، مؤمناً – كما أشرت – بأن القضاء هو القاعدة التي تقوم عليها تلك الرؤية الوطنية، وهو عماد نجاحها أو فشلها – لا قدر الله -.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني