إنها مطالب محقة يا معالي الوزير

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

خلال انعقاد الملتقى الأول لأصحاب الفضيلة رؤساء محاكم الاستئناف في وزارة العدل تقدم بعضهم لمعالي وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء المكلف الدكتور محمد العيسى بمجموعة مطالبات نشر بعضها في وسائل الإعلام، كان من أبرزها: مساواتهم في الميزات مع كبار موظفي الدولة، وتحديد جهة لعلاجهم وأسرهم، وتسهيل خدماتهم لدى الجهات الرسمية، وبالأخص خدمات الخطوط الجوية والحديدية، وتكوين مقر لاجتماع القضاة في كل منطقة، ومتابعة اللائحة الوظيفية الخاصة لدى الجهات العليا حتى تعتمد... الخ.

وهذا الموضوع وإن كان في ظاهره مطالبات خاصة بفئة القضاة، إلا أنه في حقيقته يطال ويؤثر على الناس جميعا في هذا الوطن العزيز، وما ذلك إلا لأن من أهم المهمات وأولى الأولويات لتحقيق العدل وحماية استقلال القضاء الاستقلال الحقيقي الشامل عن كل المؤثرات، توفير الحياة الكريمة للقاضي، وإعانته على القيام بما أسند إليه من مسؤولية جسيمة، ليتفرغ لها تفرغا تاما عن الشواغل المادية والمعنوية الذهنية، وإبعاد القضاة عن الخضوع لأي ضغوط قد تصل في بعض الأحيان إلى تصدع قوة القاضي وقدرته على مواجهتها.

قد يقول قائل: إنك كررت تناول هذا الموضوع في طرحك الإعلامي مما قد يكون مبالغا فيه. ولو علم الناس ما يعانيه القضاة من ضغوط وما ينقصهم من احتياجات تتوافر لكثيرين غيرهم ممن هم أقل أهمية وحساسية من دور القاضي وخطر منصبه، أو لو علم الناس ما ينعكس عليه نقص هذه الاحتياجات وما له من أثر على حماية عدالة القضاء ونزاهته، لكان الناس كلهم يطالبون للقضاة بهذه المطالب وأكثر منها.

إن تفقد احتياجات القضاة وتأمين الحاجات الضرورية لهم وكفالة العيش الكريم، ليست أمرا من نافلة القول، ولا ترفا لم يحن الوقت له، بل هي حق لهم على الدولة والمجتمع، لكونها دعامة تحفظ الحقوق وتحمي الحريات وتقيم الحجة على القاضي المقصر أو المتشاغل عن أداء مهمته والتفرغ لها. كما أن منح القضاة هذه الحقوق هو من باب العدل في مقابل ما احتملوه من قيود كثيرة تفرضها عليهم طبيعة الوظيفة القضائية شرعيا ونظاميا بل حتى واجتماعيا.

أليس القضاة أكثر من غيرهم يطالبون بالتزام قيود صارمة في التصرفات والمظاهر والحركات؟ بل أليسوا بالأمس منعوا من المشاركات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي والمشاركة فيها؟ إذا فالقاعدة الشرعية والعقلية والعدلية: أن الخراج يقابل الضمان، وأن الغُنم يقابل الغرم.

ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد، أني شاركت في اجتماع قديم للقضاة عقده رئيس سابق لديوان المظالم - أيام عملي في القضاء - ودار النقاش فيه حول هموم واحتياجات العمل القضائي، وكان الحديث منصبا على إملاء الواجبات والتذكير بالقيود التي يجب على القضاة التزامها، فقام أحد الزملاء من أصحاب الفضيلة - وكان يعد ذلك منه جرأة -!! فقال: يا معالي الرئيس: نطالب بإعادة النظر في تأخر ترقيات القضاة التي لا مبرر لتأخيرها لأسباب لا علاقة للقاضي بها مع وجود الوظائف الشاغرة، فيفوت على القاضي مدة طويلة ويبقى ذهنه مشغولا بتأخر ترقيته ومتابعتها، وقد ينعكس ذلك على مستوى عمله.

وقبل أن يجيب معالي الرئيس، تصدى أحد كبار القضاة الذي كان يشارك الجلوس في المنصة للرد على ذلك القاضي قائلا: يا شيخ فلان.. لا يمكن أن يكون تأخير الترقية سببا للتأثير على مستوى عمل القاضي فهذا أمر غير مقبول. فقال القاضي السائل: لماذا يا شيخ؟ أليس القضاة بشرا؟ فأجاب القاضي الكبير فورا وفي تعجل غير مقبول: لا ليسوا بشر!!

هذه المحاورة القصيرة تكشف عن شيء من الواقع الذي يعيشه القضاة، وكيف أن مطالبهم المحقة تواجه بالإهمال والممانعة حتى من داخل الجسم القضائي من قبل بعض كبار شاغلي المناصب القضائية ممن أصبحوا في غنى عن مثل هذه المطالبات لأنها متحققة لهم بطريقة أو بأخرى لوجاهتهم، فلم يعودوا يشعرون بما يعانيه باقي القضاة.

إن تقديم قضاة الاستئناف لهذه المطالبات إلى معالي وزير العدل خاصة بعد تكليف معاليه برئاسة المجلس الأعلى للقضاء، يأتي في إطار حسن ظنهم بمعاليه، واعتقادهم أنه أقدر وأجدر من غيره على استشعار أهمية هذه الهموم ومقدار الحاجة إليها، كونه أحد القضاة الذين عايشوها وأحسوا بها.

كما أن هذه المطالبات تأتي في خضم الحديث عن المشروع (الحلم) مشروع خادم الحرمين الشريفين "أيده الله" لتطوير القضاء. وتطوير أي قطاع أو مرفق لا يقوم ولا يتم دون العناية بالعنصر البشري فيه، الذي هو أساس نهوضه واليد الفاعلة في تنفيذ خططه وتحقيق مهامه.

ومن أهم الأمور التي أتمنى على القائمين على القضاء بشقيه العام والإداري الالتفات إليها، والتي أصبحنا نرى ونسمع بوادر تأثيرها السلبي على القضاء، ما يحدث الآن من افتتاح فروع لمحاكم الاستئناف في مناطق المملكة ونقل القضاة العاملين في المناطق الرئيسية لملء فراغ تلك المحاكم، وهذا توجه حميد وسعي مشكور لما له من أثر على تطوير مرفق القضاء وتخفيف الضغط على محاكم الاستئناف الحالية، والتهيئة لتنفيذ نظام القضاء الجديد حال صدور نظام المرافعات العام والإداري؛ إلا أن في الوجه الآخر لهذا القرار الحميد تبرز مشكلة كبيرة لا يوجد حاليا أي معالجة لها، وهي أن القاضي الذي تتم ترقيته ونقله إلى محكمة الاستئناف البعيدة عن محل إقامته الأصلي، لا يقدم له أي إعانة على توفير سكن مناسب لعائلته التي أصبحت كبيرة، ولا يعطى أي بدل مالي مقابل انتقاله واحتماله عناء ترك مقر إقامته والبعد عن أهله وعشيرته، وانفكاكه عن ارتباطاته التي أصبحت بطبيعة الحال - بحكم السن التي وصل إليها - عميقة وطيدة.

وفي حال القضاة الذين لا تسمح لهم ظروفهم بنقل أسرهم لارتباط أولادهم بالوظائف والجامعات - وهم كثيرون - يصبح القاضي في حال سفر وترحال دائم كل نهاية أسبوع لزيارة أولاده، فترى أصحاب الفضيلة قضاة الاستئناف في مناطق المملكة العديدة التي افتتحت فيها الفروع الجديدة مثل حال البدو الرحل بحثا عن الكلأ، أو كحال الطلاب الذين يتجمعون في الشقق السكنية ويشتركون في السيارات لتأنيس بعضهم ومواجهة شعور الوحدة التي وجدوا أنفسهم يعيشونها في سن الخمسين فما فوق!! ثم انظر إلى حالهم في المطارات ومحطات القطار يزاحمون الناس ويتلمسون من موظفي المطار من يتفضل عليهم ببعض التقدير احتراما لمكانتهم الوظيفية التي لا يشعرون بها غالبا إلا في حال المحاسبة والواجبات، فيوفر لهم مقعدا أو يمنحهم حجزا.

وكل هذه الصعوبات.. دون أي مقابل سوى الراتب، مما حدا ببعضهم إلى طلب التقاعد المبكر، وكثيرون يفكرون جديا بذلك، إن لم يتم النظر في حالهم وتداركهم.

وختاما.. فإنه من منطلق حب العدل، كقيمة أساسية لا تطيب الحياة دون تحقيقها وحمايتها، ومن منطلق حب هذا الوطن العزيز على نفوسنا، الذي لا استقرار له إلا بإشادة صرح العدل وحمايته رجاله (القضاة) وتقوية جنابهم، ومن منطلق حبنا لأنفسنا ولأولادنا وحرصنا على حقوقنا التي لا ضمانة لحفظها وحمايتها سوى حصن القضاء الحصين.. لكل هذه الاعتبارات لنا أمل أن يكون لأصحاب الفضيلة القضاة لفتة كريمة في تأمين احتياجاتهم الضرورية، فليسوا أقل شأنا من أساتذة الجامعات والأطباء ولا موظفي كثير من القطاعات الحكومية أو المملوكة للدولة من الهيئات والشركات الكبرى.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

 

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني