اليقين بالله أساس الصلاح الإداري

التربية
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
يشغل الحديث عن الفساد الإداري حيزا كبيرا من إعلامنا وأحاديث مجالسنا بل وحتى تفكيرنا مع أنفسنا. ومع تكرر أخبار قضايا الفساد إما على مستوى الحوادث الفردية أو تلك التي تمثّل جزءا من قضايا الرأي العام يتكرر دوما نقاش مثل هذه القضايا وتناولها الإعلامي والقانوني والاجتماعي من كل زواياها. وبتتبع صور جرائم الفساد الإداري نجد على رأسها الرشوة، واستغلال النفوذ، وسوء الاستعمال الإداري وغيرها من جرائم تدور كلها حول قضية واحدة، تتمثل في أن أطراف جريمة الفساد الإداري كلهم يسعون نحو الحصول على مصالح ومنافع مادية إما مالية أو عينية أو على شكل كسب علاقات تحقق لهم مصالحهم. وتحت إغراء هذه المطامع المادية رأينا كيف أن بعض الموظفين والمسؤولين يهدرون قدرا كبيرا من الأمانة، ويدوسون تحت أقدامهم كل اعتبارات المصالح العامة، ويتنكرون لحق الله عليهم وحقوق العباد. فصارت غاية الواحد منهم لا تتجاوز تحقيق مصالحه الشخصية، والإثراء من وراء الوظيفة العامة، وتطويع كل ما تحت يده من وسائل وأدوات القانون والسلطة لغير ما وضعها النظام لأجله. وبازدياد مثل هذه الممارسات طغت مظاهر الفساد حتى أصبحنا نراها شاخصة أمامنا في كل مظهر من مظاهر حياتنا اليومية، وصار حتى الفاسد في ميدان يشكو تسلط فاسد آخر عليه في ميدان آخر!. ولا أظنني بحاجة في مثل هذه الزاوية الصحفية إلى مناقشة وتناول قضايا الفساد من الجانب القانوني ولا حتى الشرعي بسرد أحكام تحريمها وتجريمها وبيان عقوباتها؛ فمثل هذه المعلومات أصبحت من أكثر المواضيع التي ارتفعت ثقافة الناس فيها وإدراكهم لها؛ غير أني بتّ أعتقد جازما بأننا بأمس الحاجة إلى إعادة هذه (المصائب) إلى أساسها الحقيقي، والسبب الرئيس وراء تكاثرها، ألا وهو: (ضعف اليقين والثقة بالله عز وجل) لأننا بصفتنا مسلمين نؤمن بالله واليوم الآخر نؤمن جازمين بأن الله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه مالك النفع والضر لا غيره، وأنه كما جاء في الحديث الصحيح:"لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا". رواه أحمد. ولا أزعم هنا أني أكشف للناس عن حقيقة غائبة عنهم، إذ كل من له حظٌ من الإسلام والتدين، ونشأ في مجتمع إسلامي تربى فيه على القرآن والسنة، لا يمكن أن تخفى عليه هذه الحقيقة؛ إنما المصيبة في أننا حين نستسلم لمطامع النفس وشهواتها، ولا نكاد نرى أمام أعيننا سوى مصالحنا الفردية، ننسى بالكامل يقيننا بالله عز وجل، ونتعامى عن حقيقة أن ما كتبه الله لنا من رزق سيأتينا ولا محالة، فلا يليق بنا أن نستعجله بمحاولة الوصول إليه من غير الطريق التي شرعها الله فنبوء بخسارة الدين والدنيا معا. فوالله الذي لا إله غيره أن ما كتبه الله للعبد من رزق لا يمكن أن يفوته، كما أن ما كتبه له من أجل لا يمكن أن يتجاوزه، فالرزق والأجل هما سرّ الربوبية، وآية من أعظم آيات الله عز وجل وقدرته، ولا تكاد تحصى تلك القصص والوقائع التي نرى فيها كيف أن إنسانا قد أشرف على الموت، فينجو منه ويتأخر موته ولو لحظات ليحصّل بقية ما كتبه الله له من رزق ثم يموت فور أن يستوفي هذا الرزق. إنها حقيقة إيمانية عظيمة، وآية ربانية ظاهرة، كتب الله على كل من تنكّر لها وتناساها أن يجعل فقره بين عينيه، وأن يبقى يلهث ويلهث خلف المال والمصالح لا يشبع أبدا، ثم تفضي به الحال إلى الفضيحة والعار في الدنيا، ويبوء بغضب الله ومقته، ولا يبارك له فيما حصّله من رزق من غير حلّه. إن السعادة الحقيقية هي في العمل والاكتساب وفق ما أمرنا الله به، ورعاية حق الله علينا وحقوق عباده فيما نباشره من أعمال، ووالله ليس من السعادة أن يرتفع رصيد المرء من المال الحرام ليعقبه ذلك ظُلمة في قلبه، وشقاء في حياته، ونزع بركة من ماله وولده ووقته، فإن ما جاء من حرام لا يمكن أن يحقق أي سعادة ولن تكون معه بركة. صدقوني لا أحب أن تنقلب فكرة مقالي هنا إلى خطبة وعظ يتكرر فيها كلامٌ طالما سمعناه، إنما أكتب هذه الكلمات وكلي أمل أن تنفذ إلى ضمير وقلب كل من يطلع عليها فيراجع نفسه، ويجلو صدأ قلبه، ويصحح ما قد يكون وقع فيه من تجاوزات لهذا المبدأ الإيماني العظيم (اليقين بالله) فيتدارك نفسه وإيمانه وسمعته وحياته قبل فوات الأوان. ما من جريمة فساد إلا ويقف وراءها ضعف هذه الحقيقة الإيمانية (اليقين بالله) وما من مظهر خراب في مشروعاتنا أو مسيرة إداراتنا أو ضياع حقوقنا إلا وسببه الحقيقي (موظفٌ فاسد) مصداقا لقول الله عز وجل: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون". ولأننا مسلمون، وفي بلد يقوم على تحكيم الشريعة الإسلامية، ونحيا على القرآن يتلى على مسامعنا ليل نهار، لا يمكن أن أفقد الأمل في أن يصلح الله كثيرا من أحوالنا ولعل مثل هذا المقال أن يكون مساهمة متواضعة في تحقيق ذلك. أما من لم تنفعه المواعظ فإن سنة الله عز وجل في هتك ستر الفاسدين ومحق بركتهم وفضحهم لا تزال جارية لا تتخلف وإن طال الزمان. والحمد لله أولا وآخرا.
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني