العلاقة الشخصية بين القاضي والمحامي

علاقة القاضي والمحامي

تناولت الكثير من الكتابات الصحفية المتخصصة في القانون داخل المملكة وخارجها، مسألة علاقة القاضي بالمحامي في إطار العمل، والأحكام النظامية والأدبية لما ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقة.

وعلى سبيل المثال تناول معالي الشيخ يوسف الفراج هذا الموضوع في مقال قديم نشرته صحيفة الاقتصادية بتاريخ 6/12/2007م، فقال فضيلته "إن هناك جفوة بين بعض المحامين وبعض القضاة.

ولا أظن أني أبوح بسر حين أذكر ذلك فهو مشاهد ومعروف، والأمر بحاجة إلى تلطيف الجو بين هذا البعض من الجانبين، والقناعة أن لكل منهما دوراً فاعلاً في إحقاق الحقوق".

إن الشرع والنظام لم يحرّما ولم يجرّما مثل هذه العلاقة أبداً، إنما وضعا لها من الضوابط ما يكفل ألا تؤثر سلباً في نزاهة وحياد كل منهما، ولا على العدل الواجب

إلا أن هناك جانباً آخر للعلاقة بين القاضي والمحامي لم أر أحداً تناوله، ألا وهو العلاقة الشخصية بين القاضي والمحامي. وهل من المقبول وجود مثل هذه العلاقة بينهما؟ والأثر القانوني والشرعي لمثل هذه العلاقة؟

ولعل قارئاً يتساءل في دهشة: أليس القاضي والمحامي كلاهما بشرا يمكن أن تنشأ بينهما علاقة شخصية، فما وجه الغرابة أو الاستنكار في ذلك؟

فأقول: إنه وإن كان الأصل أن العلاقة الشخصية التي تقوم على أساس سليم من المحبة والصداقة والإلفة بين القاضي والمحامي، أن ذلك أمر لا غرابة ولا نكارة فيه؛ إلا أن واقعنا يشهد بأن الكثير من القضاة والمحامين يتحرجون من مثل هذه العلاقة، خشية إساءة الظن بأهدافها، أو لأنه قد يأتي اليوم الذي يقف فيه هذا المحامي بين يدي صديقه القاضي مترافعاً، فيكون في ذلك حرج أو تهمة.

وأعتقد أن هذا الحرج أو الخوف من التهمة، يدل على خلل في الفهم. إذ ما الذي يجعل القضاة والمحامين استثناء من الطبيعة البشرية التي تفرض أن ينشأ بين الطرفين محبة وصحبة وتآلف طبيعي بشري؟

وفي ظل تزايد أعداد القضاة الذين يتجهون إلى المحاماة، هل يفترض بهم أن يبدأوا مزاولة المهنة بقطع كل ما كان لهم من صلات محبة وصداقة وأخوّة متينة بزملائهم السابقين من القضاة، التي تكوّنت على مدى أعوام طويلة؟!.

وكذلك الزملاء على مقاعد الدراسة في المرحلة الجامعية، هل يفترض بهم أن يبتروا ما تكون بينهم من علاقات أخوة ومحبة وصداقة، لمجرد اتجاه بعضهم إلى القضاء، والبعض الآخر إلى المحاماة؟!.

لا أعتقد عقلاً سوياً يقول بأنه يجب قطع مثل هذه العلاقات التي تقوم على أساس سوي من الدين والفطرة والطبيعة البشرية؛ إلا أن هذه المسألة البدهية لم تبسط ظلالها على الواقع، ولم تقوَ على دفع الظنون السيئة، والحرج المتوهم، الذي يحدث في نفوس بعض القضاة أو بعض المحامين تجاه زملائهم وأحبابهم. فما أن يتحدد مسار كل منهما بتوجه أحدهما إلى القضاء والآخر إلى المحاماة، حتى تبدأ العلاقة الأخوية في الضعف والاضمحلال، وتصبح محكومة بالحرج والشكوك!.

وحتى أكشف للقارئ الكريم عن مدى ضلال مثل هذه الأفكار والقناعات، التي ترى حرجاً أو تشعر بقلق بسبب مثل هذه العلاقة بين القاضي والمحامي، أضرب لذلك مثلاً أكثر وضوحاً، وهو ما لو كان القاضي والمحامي يربطهما رابطة قرابة بأن كان المحامي ابناً أو أخاً أو صهراً للقاضي أو غير ذلك من روابط القرابة، فهل تصبح هذه القرابة مصدر قلق وحرج وانزعاج بينهما؟ قطعاً لن يكون ذلك.

إذاً فما الإشكال أن يكون بينهما صداقة متينة في وضح النهار، منشؤها الزمالة السابقة، أو حتى كان منشؤها صدفة جمعتهما فكان بينهما توافق روحي، وانسجام؟!.

إن الشرع والنظام لم يحرّما ولم يجرّما مثل هذه العلاقة أبداً، إنما وضعا لها من الضوابط ما يكفل ألا تؤثر سلباً في نزاهة وحياد كل منهما، ولا على العدل الواجب.

فتكلم الفقهاء رحمهم الله كثيراً عن الأحوال التي لا يجوز فيها للقاضي أن يقضي، وذكروا منها أن يكون أحد الخصوم صديقاً له يؤاكله ويشاربه.

كما أورد نظام المرافعات الشرعية في المادة (96) أسباب رد القاضي عن نظر الدعوى، فذكر منها: إذا اعتاد القاضي مؤاكلة أحد الخصوم أو مساكنته.

ورغم أن هذا الحكم الفقهي والنظامي نص على العلاقة بين القاضي وبين أحد الخصوم، وأن المحامي لا يعتبر خصماً أصلاً، إنما هو وكيل في الخصومة؛ إلا أنه متى شعر القاضي بالحرج في نظر دعوى يترافع أمامه فيها المحامي الذي تربطه به علاقة صداقة ومودة، فإنه بإمكان القاضي أن يطلب التنحي عن نظر الدعوى، ويتجنب هذا الحرج.

ومثل هذه المعالجة الشرعية والنظامية، تكفل أن تبقى علاقة الصداقة والمودة قائمة بين القاضي والمحامي، دون أن يترتب عليها أي حرج أو تهمة أو إخلال بالعدالة.

ومن اللافت للنظر في هذه القضية أن الكثير من القضاة في المحاكم لا يتحرجون في التباسط والتعامل بأريحية مع المدعين العامين، وممثلي الجهات الحكومية، رغم أنهم في ميزان العدالة لا يختلفون إطلاقاً عن المحامين، بينما يتعاملون مع المحامي بحساسية شديدة، حتى ولو كان يربط القاضي بذلك المحامي روابط زمالة سابقة وصداقة.

هذه قضية أعتقد أنها تستحق التأمل، ودعوة لمراجعة القناعات والسلوكيات فيها، بما يتوافق مع الطبيعة البشرية، والأحكام الشرعية والنظامية.

والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني