الترجمة في المحاكم والواقع المؤمّل

مقال أسبوعي ينشر كل سبت في جريدة الرياض

منذ سنوات طويلة وموضوع الترجمة أمام القضاء يشغل تفكيري، وكم شاهدت من وقائع في دعاوى مختلفة كاد الحق فيها أن يضيع أو ضاع بالفعل بسبب خطأ مترجم.

والترجمة أمام القضاء لها عدة صور وحالات لكل منها أحكامه وأهميته وآثاره؛ فهناك الترجمة الفورية الشفهية التي يتولى المترجم فيها ترجمة أقوال أحد طرفي الدعوى التي تصدر عنه في مجلس القضاء، وغالب ما يكون ذلك وأكثره خطورة ما يحدث في الدعاوى الجنائية التي يكون فيها المتهم من غير الناطقين بالعربية، فيستعين القاضي بمترجم ليسمع أقوال المتهم وإقراره أو إنكاره، وكذلك الحال عند سماع شهادة الشهود إن لم يكونوا ناطقين بالعربية.

كما أن هناك نوعاً آخر من الترجمة وهو ترجمة العقود والمستندات المحررة بغير العربية، وهذا قد يكون أقل خطراً لأنه غالباً يأخذ الوقت الكافي لإنجازه ويقدم للمحكمة محرراً مكتوباً مما يجعل الفرصة لمراجعته أكبر.

فالنوع الأول وهو الترجمة الفورية الشفوية بالنظر إلى واقعه المعمول به في المحاكم حالياً نجد الكثير من الإشكالات الخطيرة التي قد ينتج عنها مظالم لا يعلم إلا الله مداها، ومن هذه الإشكالات ما يلي:

أولاً: قلة عدد المترجمين المتوافرين في المحاكم – خاصة ً المحاكم الجزائية – ولهذا تجد المترجم الواحد يقدم خدماته لأكثر من مكتب قضائي في نفس اليوم، مما يضطر معه القضاة لإطالة أمد الجلسة في انتظار وصول المترجم الذي يأتي مستعجلاً يريد سرعة إنجاز المهمة – على حساب الجودة – لينتقل لمكتب ٍ قضائي آخر.

ثانياً: قلة المؤهلين منهم، وقد ينتج عن الخطأ في الترجمة نسبة أقوال للمتهم أو الشاهد لم تصدر عنه في الحقيقة، فيكون الحكم مبنياً على فهم ٍغير صحيح.

ثالثاً: إن الكثير من هؤلاء المترجمين متعاونون وليسوا موظفين في المحكمة ليتسنى للجهة المختصة حسن اختيارهم وتوظيفهم بناء على مؤهلات واختبارات وإخضاعهم لرقابة مستمرة تكفل أهليتهم وعدالتهم.

رابعاً: إن من أعظم المصائب أن القاضي لا يفهم لغة المتهم أو الشاهد، والمتهم أو الشاهد لا يفهم ماذا قال المترجم على لسانه بالعربية، وهنا لم يكن أحدٌ رقيباً على عملية الترجمة سوى أمانة وأهلية المترجم الذي يكون شخصاً واحداً ويتوقف مصير المتهم عليه! وعلاوة على ذلك فالحكم بعد أن يصدر في المرحلة الأولى لا يكون هناك أمام المحاكم الأعلى درجة (الاستئناف والعليا) إعادة للترجمة؛ بل يستمر فحص القضية ونظرها وفق ما أثبت فيها أول مرة، مما يجعل عدالة الأحكام في خطر.

وعن النوع الثاني من أنواع الترجمة وهي ترجمة المستندات والعقود، فإن هناك خللاً واضحاً وملحوظاً، ونقصاً كبيراً في بيوت الخبرة التي تقدم هذه الخدمة، كما أنه لا يوجد إطلاقاً في المملكة مكاتب ترجمة أو بيوت خبرة حازت ثقة القضاء وأصبحت متعارفاً عليها، كما أن جهود وزارة العدل الميدان الضروري المهم لا تزال بحاجة إلى مزيد من التفعيل.

وإن من الواجب أن تبادر الوزارة إلى سن اللوائح والتنظيمات التي تكفل إنشاء سجل خاص بالمترجمين ومكاتب الترجمة القانونية – باعتبارهم خبراء – وتتخذ من الإجراءات ما يكفل تأمين العدد الكافي منهم، وفحص مدى أهليتهم وكفايتهم، وإخضاعهم لاختبارات مستمرة، ومنحهم تراخيص لمزاولة المهنة -كالمحامين تماماً- بحيث يكون من يحمل الترخيص مقبولاً وموثوقاً أمام المحاكم.

وإن الناظر في كتب الفقهاء السابقين يجد عنايتهم الكبيرة بموضوع الخبراء، لإدراكهم أهمية وخطورة هذا العمل. فما من كتاب فقه تناول أحكام القضاء إلا وتعرض لأحكام ترجمان القاضي وشروطه وأهميته، والرقابة التي يجب أن يبسطها القاضي على ترجمانه صيانة للحقوق والحريات.

وأجدد التأكيد على خطورة آثار الترجمة الفورية في المحاكم الجزائية، على حقوق الناس ودمائهم وأعراضهم، وأنه قد يترتب على الإخلال والنقص فيها مظالم عظيمة، مما يستوجب ضرورة مبادرة وزارة العدل لتبني مشروع متكامل لمعالجة هذا الملف الشائك، ونقله من صورته البدائية إلى ممارسة متطورة عصرية متقنة.

والحمد لله أولاً وآخرًا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني