التعايش الاجتماعي.. ولا ينصر الله أقواماً متفرقين

التعايش الاجتماعي
مقال أسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض

في خطبته يوم الجمعة 24/5/1437ه ناقش معالي الشيخ صالح ابن حميد قضيةً من أخطر القضايا وأكثرها حساسية وتعقيداً، وهي قضية (التعايش الاجتماعي).

وجاءت خطبة فضيلته زاخرة بالمعاني الشرعية السامية، والمضامين الحكيمة العادلة، التي تؤكد على موقف الشريعة الإسلامية من اختلاف البشر، وحدود قبول أو رفض هذا الاختلاف، والأسس العليا التي يجب أن تقوم عليها الدولة المسلمة، والمبادئ الأساسية التي لا يسع المجتمع المسلم إلا فهمها واستيعابها والتقيد بها.

وكم أتمنى لو تم نشر هذه الخطبة وتعميمها عبر كل القنوات والوسائل التعليمية والإعلامية والمجاميع الثقافية، لأننا اليوم في أمسّ الحاجة لتفهمّ هذه القضية، التي ينتقص من أمننا، ووحدتنا، وسلمنا وإسلامنا بقدر ما ينقص من فهمنا لهذه القضية وتطبيقنا لها.

وتأتي القيمة المضافة، لهذه الخطبة، كونها تصدر من منبر الحرم المكي الشريف، قبلة المسلمين، ومهبط الوحي، وعلى لسان أحد أهم علماء المسلمين، وعضو كبار العلماء في المملكة.

ومن البديهي أن تضيق مساحة هذا المقال عن استيعاب كل ما تضمنته هذه الخطبة من مضامين عميقة شاملة، غير أني لم أشأ تفويت فرصة الإشارة إلى أبرز ما جاء فيها وإعادة طرحه على الناس، للأهمية القصوى لهذه القضية. وسأحاول إيجاز أبرز أفكار الخطبة عبر النقاط التالية:

أولاً: أكد فضيلته أن "من سُنَّة الله في البشر: اختلافُ أذواقهم وفُهومهم وإدراكاتهم وحدَّة طِباعهم وهدوئِهم وذكائِهم وقناعاتهم، فلكل إنسانٍ قناعاتُه ورُؤيتُه وفهمُه وإدراكُه، فلا يُحجَرُ عليه، ولا يُجبَرُ على تغيُّر مفاهيمه، وما يصلُحُ لهذا قد لا يصلُحُ لذاك".

ولأن المصيبة العظمى التي جرّت على المسلمين الويلات، هي العجز عن استيعاب هذه الحقيقة، والقدرة على التعامل الصحيح معها وفق ما شرعه الله عز وجل، فقد أكّد فضيلة الشيخ صالح أن "المسلَك الحكيم هو في التعامُل مع ما قضَته سُنَّةُ الله من حقائِق التنوُّع الاجتماعيِّ، والتفكيرُ بطريقة مُنفتِحةٍ غير ضيِّقة؛ لأن الأُطُر الضيِّقة لا تُنتِجُ إلا خياراتٍ ضيِّقة، وفهمُ الآخر لا يلزمُ منه القناعة بما يقول ".

ثانياً :أشار فضيلته إلى مسألة غاية في الأهمية، وتعتبر ركيزة أساسية وفاعلة في تحقيق التعايش، ألا وهي: أنه ما دام التعايش واستيعاب الآخرين منهجاً شرعياً ثابتاً، فإنه لا يكفي أن ندعو إليه الناس، ونرغّبهم فيه، ثم نترك حرية تطبيق ذلك إلى أمزجتهم أو فهمهم واستيعابهم، أو إلى وازعهم الديني، أو إلى مدى إدراكهم لأهمية الأمن والوحدة؛ إنما يجب أن تبادر الدولة إلى سنّ القوانين الصارمة، التي تحمي قيمة التعايش، وتكفل حقوق جميع فئات المجتمع، وتردع وتزجر كل من اجترأ على اختراق وحدة المجتمع، أو استهان بأمن الدولة من خلال بثّ أفكار العنصرية والتحزب والطائفية، أو مارس أساليب التحريض ونشر الكراهية، فمثل هؤلاء لا يكفي مجرد موعظتهم أو بيان الحكم الشرعي الصحيح لهم، وتركهم يفعلون ما يحلو لهم، فمن القواعد المسلّمة "أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وعن هذه القضية ينقل الشيخ صالح مقولة الإمام الشافعي "والناسُ يتعايَشُون بالدين وبالمروءة وبالحياء وبالرغبة وبالرهبة". إذاً فالرهبة والخوف من عقوبة الدولة جزءٌ أساس ٌ لحفظ قيمة التعايش.

وأشار فضيلته هنا إلى الدولة الإسلامية في العهد النبوي فقال: "لقد كان مُجتمعُ المدينة مُجتمعًا مُتعايِشًا، وهو يضُمُّ: المُؤمنين، والمنافقين، واليهود، والمُشركين، وغيرَهم".

ثالثاً: أكّد فضيلته بشكل مطول في خطبته على أن " اجتماع الكلمة، ووحدة الصف داخل المجتمع " تعتبر قيمة أساسية، وغاية مقدّسة، أكد الإسلام بنصوصه التشريعية، على ضرورة الحفاظ عليه، والسعي لتحصيله ولو تطلب ذلك ترك جزء من الحق، أو تأجيل قضايا عادلة إلى وقت الإمكان، من باب ترتيب الأولويات، لأن وحدة الصف واجتماع الكلمة إذا تصدعت، ضاع كلّ شيء، وانتهكت كل الحقوق، واعتدي على كل الضرورات الإنسانية (الدين – والنفس – والعرض – والمال ).

واستشهد فضيلته على ذلك بالكثير من الشواهد التي لا تخفى دلالتها إلا على أعمى البصيرة.

رابعاً: أكد فضيلته أيضاً على أن من أهم القضايا المرتبطة بالتعايش الاجتماعي، والمحققة لاجتماع الكلمة ووحدة الصف، والتي – وبكل أسف – أصبحت غائبة عن أذهان الكثير من الغارقين في رفع شعارات دينية أو مطالبات شرعية لم يوفقوا في طرحها، لأنهم طرحوها بأساليب عنيفة، متشنجة، منزوعة الحكمة، من زوايا ضيقة تجاوزا فيها حدود سلطتهم، ونازعوا بها أهل الحل والعقد من العلماء وولاة الأمر فيما وكله الله إليهم، ألا وهي قضية (تقدير المصالح والمفاسد) إذ أصبح كل مجهول هوية في وسائل التواصل الاجتماعي، أو منتسب لعلم أو دعوة يعتمد على دغدغة مشاعر الجماهير أو التقوي بهم، أصبح هؤلاء يخوضون في قضايا الأمة العامة ويقررون الأصلح والأولى، ويثيرون الزوابع على مسائل من التفاصيل والجزئيات، فيشوشوا بها على القضايا الكبرى والقواعد والكليّات، لا يفرقون بين زمان هدوء ورخاء، ولا زمان حرب وسيلان دماء.

نعم.. لقد سرد فضيلة الشيخ صالح العديد من الشواهد التي تؤصل لضرورة تقدير ورعاية أمور المصالح والمفاسد، وأن المعني بتقديرها وتقريرها هو الدولة بقيادتها وعلمائها، وأنه يجب على الناس عامة الإذعان لذلك، لأن آية الخراب، ونذير الشؤم هي في منازعة الأمر أهله، والتشغيب على ولاة الأمر وإشغالهم بهذه القضايا عن مكابدة حماية دين الأمة وأمنها ووحدتها، ومواجهة ما يهدد ذلك من أخطار عظيمة خارجية، لم تعد تقتصر على دول معادية، ولا مؤامرات منظمات إرهابية، ولا ضغوط في محافل دولية لزحزحة الدولة عن ثوابتها ومساومتها على مبادئها.

كل ذلك تواجهه قيادتنا بكل صبر وحزم وحكمة مستعينين بالله عز وجل وكفى به وكيلا، فلا أقل من أن نشكّل لهم قاعدة دفاع داخلي، باستيعابنا للمخاطر، وثقتنا في حكمة القيادة، ونبذ نزاعاتنا واختلافاتنا جانباً.

وقد أورد الشيخ في خطبته شاهداً على هذه القضية بقوله: "لما قال المُنافِقون مقالتَهم التي سجَّلها عليهم القرآنُ العزيز: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) طلبَ الصحابةُ - رِضوانُ الله عليهم - من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذَنَ بقتلِهم، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يتحدَّثُ الناسُ أنه كان يقتلُ أصحابَه».

ما أعظمَها من كلمة، وما أوضحَه من توجيه. فأين هذا - عياذًا بالله - من الذين يقتلُون آباءَهم وأمهاتهم وأقاربَهم، فضلاً عن إخوانهم المُسلمين؟!

أما من أبى إلا مشاقة الله ورسوله والمؤمنين، فهؤلاء ليس لهم إلا ما ذكره الشيخ بقوله: " كما ينبغي التفريقُ بين المُسالِم والباغِي والخائِن؛ فالذي يبغي ويُهدِّدُ السِّلم العام، ويُريدُ تفريقَ المُسلمين، ويُعمِلُ السَّيفَ على رِقابهم، فلا بُدَّ من إيقافه عند حدِّه، والضربِ على يدِه كائنًا من كان.

والذي يخُونُ وطنَه، ويخذُلُ أهلَه، ويتواطَأُ مع الأعداء ويُمالِئُهم يجبُ الحزمُ معه، وفضحُ أمره، واتخاذُ الموقِف الرَّادِع الصارِم له ولأمثالِه ".

ثم أختم هنا بقول الشيخ صالح في خطبته "عونُ الله لا يتنزَّلُ على المُتعصِّبين والمُتحزِّبين، ولا ينصُر الله أقوامًا مُتفرِّقين".

حفظ الله علينا ديننا وأمننا ووحدتنا، ورد كيد أعدائنا في نحورهم والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني