رخصة التوثيق وخطورة المهمة

رخصة
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
بدأت وزارة العدل في الآونة الأخيرة في إجراء المقابلات الشخصية للمتقدمين بطلبات الحصول على رخصة التوثيق، وذلك بعد مدة من الإجراءات والترتيبات التي قامت بها الوزارة لإنفاذ ما صدر مؤخراً من تنظيم يجيز منح رخصة خاصة لمزاولة مهنة (التوثيق) ليكون ما يصدر عن (الموثِّق) سنداً تنفيذياً يتوجه حاملُه إلى قضاء التنفيذ مباشرة للمطالبة بالإلزام بما تضمنه من التزامات. وتوثيق الحقوق والإقرارات والديون والالتزامات بين الناس من الأعمال المأمور بها شرعاً، ولا يخفى مدى أهميته ومشروعيته على أحد، إلا أن التوثيق العرفي الذي كان يمارسه المحامون والناس قبل صدور هذا التنظيم يختلف جذرياً عن (التوثيق العدلي) الذي يشترط للقيام به أن يكون الموثّق حاصلاً على رخصة التوثيق وفق أحكام هذا التنظيم الجديد؛ فالتوثيق العرفي لا يعدو كونه بيّنة من البينات التي يرجع إليها القضاة عند التنازع، ويكون للقاضي سلطة تقديرية واسعة في قبولها وردها، أما (التوثيق العدلي) فهو كما أشرت سنداً تنفيذياً صالحاً للإلزام بمقتضاه من قضاء التنفيذ مباشرة، فله حجيةٌ تشبه حجية الأحكام القضائية. هذا ما دعاني إلى الوقوف طويلاً مع ما صدر عن وزارة العدل تحت مسمى (لائحة الموثقين وأعمالهم) لتنظيم أعمال الموثقين العدليين، وكيفية الترخيص لهم والرقابة عليهم، وكنتُ أقرأ نصوص هذه اللائحة بتمعن كبير، مقارناً ما ورد فيها بما تضمنته الأنظمة ذات العلاقة، خاصة التي تحكم أعمال واختصاصات كتاب العدل، وما ورد في كتب الفقهاء من أحكام وأهمية وشروط هذا التوثيق. وانتهيت من هذه القراءة والبحث إلى أن لائحة الموثقين قد يكون فيها توسعاً كبيراً في منح الرخصة بأقل درجات الاحتياط والاهتمام الذي كان يفترض أن تحاط به رخصة التوثيق لأهميتها وخطورة آثارها على الناس وحقوقهم. إضافة إلى عدد من الملاحظات الأساسية التي رأيت مناسبة طرحها هنا لعلها تكون محل تأمل وإعادة نظر من المسؤولين في وزارة العدل، فإن رأوا فيها ما يفيد، فالظن بهم أنهم لن يتجاوزوه. ففي جانب الفقه الإسلامي يجد الباحث في (علم التوثيق) أن الفقهاء يسمونه (علم الشروط) وأنهم ذكروا عدداً من الشروط الأساسية التي لابد من توافرها في كل من يضطلع بهذه المهمة الخطيرة، وأبرز هذه الشروط أن يكون الموثق عالماً ومدركاً للنصوص الشرعية واجتهادات الفقهاء وما جرى به عمل القضاة، من غير إغفال عرف الناس وعاداتهم، علاوة عن أمانته وعدالته الظاهرة الثابتة، لأنه يتصدى لإثبات الحقوق، ولا يقتصر عمله على مجرد الكتابة والإثبات، بل يجب أن يبصّر الناس بمعاني العقود والإقرارات التي يطلبون منه توثيقها، ويشرح لهم آثارها عليهم وعلى غيرهم، ويكون عارفاً بما يصح منها وما لا يصح، وما ينفذ وما لا ينفذ، وما يجوز شرعاً وما لا يجوز، وغير ذلك من أحكام يجب التبين في مدى توافرها في كل متقدم بطلب رخصة التوثيق قبل الموافقة على طلبه. ولعل أكثر ما لفت نظري أيضاً في لائحة الموثقين مقارنة بأعمال واختصاصات كتاب العدل، أن اللائحة منحت (الموثّق) صلاحيات، وجمع له اختصاصات لا يملكها كاتب العدل، رغم أن عمل التوثيق في الأصل منوط بكتاب العدل، وأن تجربة أعمال كتابات العدل في الدولة قديمة وطويلة جداً، وأصبحت من النضوج والاستقرار والوضوح بدرجة عالية، ورغم ذلك فإن كاتب العدل في كتابة العدل الأولى محكومٌ بعدة ضوابط أبرزها الاختصاص المكاني في إفراغ العقارات، وأنه في المدينة التي يقع فيها كتابة عدل أولى وثانية لا يحق لكاتب العدل في الأولى أن يتصدى لإصدار وكالة أو فسخها مثلاً، وكذلك كاتب العدل في كتابة العدل الثانية لا يحق له أن يتصدى لإفراغ العقارات وتوثيق بيعها؛ بينما (الموثّق) قد جمعت له اللائحة كل هذه الاختصاصات، وبدون ولاية مكانية لتوثيق بيوع العقارات وانتقال ملكيتها. وفي الشرط السادس من شروط الحصول على رخصة التوثيق جاء أن يجتاز المتقدم بطلب الرخصة دورة متخصصة لا تقل عن شهر (دون بيان طبيعة ما تتضمنه هذه الدورة) واستثني من ذلك من سبق لهم مزاولة بعض الأعمال كالقضاء والمحاماة وتدريس المواد الشرعية؛ فهل كل محام زاول مهنة المحاماة ملمٌّ تماماً بمتطلبات مهنة التوثيق مستوفٍ لكل شروطها العلمية وغير العلمية؟ وفي جانب الرقابة على أعمال الموثقين، جمعت اللائحة هذه المهمة الشاقة إلى أعمال لجنة كتابات وكتاب العدل، رغم أن هذه اللجنة حالياً تنوء بثقل ما أنيط بها من أعمال. ولعل من إيجابيات لائحة الموثقين أنها لم تنصّ على جواز التظلم من الامتناع عن منحة الرخصة أمام ديوان المظالم أسوة بغيرها من التراخيص، وهذا يُفهم بأن منح الرخصة ليس مستحقاً لكل من استوفى الشروط الشكلية المنصوص عليها؛ بل لا بد أن تقدر اللجنة المختصة صلاحية المتقدم من كافة الجوانب. إذاً فلعل الأقرب للمصلحة هو التريث في إصدار رخص التوثيق وعدم التوسع في ذلك قبل ضبط كافة الجوانب التي يمكن أن تؤثر سلباً على الناس وحقوقهم، إضافة للتدرج في منح الصلاحيات للموثق فلا يباشر بمجرد حصوله على الرخصة كل الصلاحيات الواردة في اللائحة دون قيد أو شرط. وبعد أن يعاد النظر في شروط الحصول على الرخصة، وتصبح كافية لعدم منحها لمن لا تنطبق عليه كافة الشروط التي نصّ عليها الفقهاء والتي توازي أهمية هذه المهنة الحساسة، يمكن أن يتوسع في الصلاحيات. هذه مجرد رؤية ومقترحات استوحيتها من خبرتي واطلاعي على مسائل علم التوثيق، ولا أشك أن في وزارة العدل من الكفاءات وذوي العلم والخبرة من هم أقدر مني على وزن مدى ملائمتها من عدمه. والحمد لله أولاً وآخراً.
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني