كتابة الحكم القضائي قبل النطق به

كتابة الحكم القضائي

الحكم القضائي هو ثمرة الدعوى وغايتها، ومن خلاله يتحقق مقصود القضاء، من إيصال الحق لصاحبه وقطع المنازعة بين الناس. ولهذا فقد اعتنى فقهاء الشريعة وشراح القانون بتناول أوصاف الحكم القضائي وشروطه وكافة مسائله.

وجدت أن هذا المفهوم الشائع يستحق المراجعة والتصحيح، وأن من الخطأ أن يقوم القاضي بالحكم في القضية والنطق بهذا الحكم قبل أن يستكمل كتابة الحكم..

ويعتقد الكثير من القضاة والمحامين وغيرهم من المتخصصين أن كتابة الحكم القضائي تأتي تالية لإصدار الحكم والنطق به، وهذا ما جرت عليه العادة أن يتم النطق بالحكم في جلسة ثم يكون تسليم صك الحكم في موعد لاحق؛ إلا أنه من خلال تجربتي القضائية وفي المحاماة، وما مرّ بي من تجارب الكثير من الزملاء والأصدقاء من أصحاب الفضيلة القضاة، وجدت أن هذا المفهوم الشائع يستحق المراجعة والتصحيح، وأن من الخطأ أن يقوم القاضي بالحكم في القضية والنطق بهذا الحكم قبل أن يستكمل كتابة الحكم.

ولعل قليل التجربة أن يعجب من هذا الكلام، ويظن أن كتابة الحكم ليست إلا خطوة تابعة للحكم، وأنه بمجرد استقرار الحكم في وجدان القاضي، وإعلان منطوقه لم تعد كتابة الحكم بتلك المسألة المشكلة؛ وهذا الاعتقاد غير صحيح إطلاقاً؛ بل إن كتابة الحكم تعدّ أمراً بالغ الأهمية، لا تقلّ عن أهمية الحكم نفسه، لأن الحكم القضائي هو عبارة عن (وقائع مادية) و (أدلة شرعية ونظامية) وعملية الاجتهاد التي يقوم بها القاضي للوصول إلى الحكم في الدعوى تتمثل في تنزيل دلالات الأدلة الشرعية والنظامية على الوقائع المادية محل النزاع. وهذا يتوقف على مدى فهم القاضي للوقائع المعروضة عليه، وعلمه وفهمه لأدلة الشرع ونصوص النظام، حتى يتمكن من إكمال عملية الاجتهاد على وجهها السليم.

وكل خطأ أو خلل في حكم قضائي إنما يكون مصدره الخطأ في فهم الوقائع، أو في فهم أدلة الشرع ونصوص النظام، مما يؤدي للخطأ في تطبيق النص غير المناسب على الواقعة.

ومن خلال ما تشهده المحاكم من تزاحم ٍ في القضايا، وقلة أعداد القضاة، وقلة خبرة بعض القضاة من المعينين حديثاً في القضاء – وهم أصبحوا يشكلون نسبة كبرى من أعداد قضاة محاكم الدرجة الأولى – فإن مما يقع كثيراً أن يستعجل القاضي في إنجاز القضية والحكم فيها، قبل أن يتاح له الوقت الكافي لتأملها وبحثها واستيعاب كل وقائعها، فيحكم بما انقدح في ذهنه من اجتهاد أولي، ويتم النطق بهذا الحكم، إلا أنه عند الشروع في كتابة الحكم قد يظهر للقاضي خطأ حكمه، ويتضح له ما كان خافياً عنه عند البحث في القضية للمرة الأولى.

كما أن بعض القضاة قد يحكم بما أداه إليه انطباعه الأولي في الدعوى، وحين يشرع في كتابة الحكم وتسبيبه ينكشف له خطأ ذلك الانطباع الأولي.

وبذلك تتضح الأهمية القصوى لكتابة الحكم القضائي قبل أن يتم النطق به على الخصوم، وذلك لأن من المعلوم اشتمال الحكم القضائي على ركنين أساسيين – كما سبق – هما (الوقائع محل النزاع وخلاصة الدعوى والإجابة) و (التسبيب الشرعي والنظامي للحكم) فإذا أتمّ القاضي كتابة هذين الركنين بشكل ٍ صحيح، فإنه يكون قد أنجز الحكم القضائي، وأصبح أقرب للدقة والصواب من مجرد النطق بالحكم بشكل مستعجل قبل استكمال كتابة وقائعه وأسبابه.

بل إنه – ومن خلال خبرتي وخبرة الكثيرين من الزملاء القضاة – قد يكون القاضي لم يصل إلى حكم محدد في القضية، وبمجرد أن يبدأ في كتابة وقائعها وتلخيص مذكرات الخصوم فيها، ينقدح في ذهنه الحكم، ويصل للاجتهاد الصحيح في الدعوى، مما يكشف مدى أهمية هذه الخطوة – كتابة الحكم – وتأثيرها على صواب الأحكام.

وتصبح هذه المسألة – كتابة الحكم قبل النطق به – غاية في الأهمية في القضاء الإداري بديوان المظالم؛ لأنه ليس للقاضي الإداري صلاحية الرجوع عن حكمه بعد النطق به، حتى لو اكتشف خطأه، بخلاف قاضي القضاء العام الذي يمكنه مراجعة حكمه والرجوع عنه قبل رفع القضية لمحكمة الاستئناف.

والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني