نشر الأحكام القضائية غير النهائية في الإعلام

مقال أسبوعي ينشر كل سبت في جريدة الرياض

من أكثر القضايا التي دوماً ما تكون محل جدل ونقاش، طبيعة العلاقة بين القضاء والإعلام، فالعلاقة بين القضاء والإعلام علاقة تكاملية، وكل منهما سلطة مستقلة ويعتمد كل منهما على ضمانات دستورية، حيث إن الإعلام يعتمد حرية التعبير التي كفلها النظام الأساسي للحكم، والقضاء يمارس مهامه في إطار من الضمانات القضائية التي تكفل تحقيق محاكمة عادلة، ومن أهم الضمانات وأخطرها استقلال القضاء في إحكامه وقراراته .

وإذا تكلمنا عن استقلال القضاء في أحكامه، فإن من أعظم ما يهدد هذا الاستقلال، التناول الإعلامي لأحكام القضاء غير النهائية، والتعليق عليها بالنقد، وهي ما تزال محل نظر القضاء، مما يشكل تأثيراً غير مقبول ٍ على استقلال القضاء .

وقد سبق لي تناول هذا الموضوع منذ عدة سنوات في مقال نشر في صحيفة الاقتصادية بعنوان ( القضاء والإعلام .. إشكالية حقيقية ) وذلك على إثر عقد وزارة العدل حينها مؤتمراً لمناقشة العلاقة بين القضاء والإعلام ، وقد خرج ذلك المؤتمر بالعديد من النتائج والتوصيات الضرورية الهامة، التي أكدت على حدود العلاقة بين القضاء والإعلام، وأنه يجب على الإعلام أن يراعي جانب استقلال القضاء، بالامتثال لما نصت عليه الأنظمة والتعليمات بعدم نشر أخبار وقائع التحقيقات والمحاكمات إلا بإذن الجهة المختصة .

وخلال الأسابيع الماضية برز على السطح جدل ٌ كبير حول حكمين قضائيين تم نشرهما رغم عدم اكتسابهما الصفة القطعية، وتناولهما الإعلام بالنقد، وخاض في وقائعهما الخائضون، ووصل الحدّ بذلك إلى النيل من القضاء واتهامه بأنواع التهم المستوجبة للمحاكمة ممن صدرت عنهم .

وإذا ما نظرنا إلى أن الكثير من الخائضين في أحكام القضاء إنما هم من غير المتخصصين، أو من المتخصصين الذين لم يعرفوا عن تفاصيل القضية سوى ما نشره الإعلام ، أو من بعض الأطراف ذوي المصلحة الذين يتناولون تلك الأحكام بما يخدم مصالحهم فيها، فلنا أن نتصور كيف سيكون مستوى هذا التناول والتعليق على أحكام القضاء ، وأن ندرك كيف يتم تجييش المجتمع لتشكيل رأي ٍ عام ٍ حول قضية ٍ من القضايا، مما يعتبر تهديداً خطيراً لاستقلال القضاة ناظري تلك القضية .

وإنه ما من دولة ٍ ذات نظام ٍ وسيادة، إلا وترعى في المقام الأول ضمانة استقلال ونزاهة وحياد قضائها، وتسنّ الأنظمة الكفيلة بتحقيق هذه الغاية، متضمنة كافة وسائل وأدوات الردع والزجر لكل من يتجاوز هذه الخطوط الحمراء، محاولاً التشويش على وقائع المحاكمات والتحقيقات، أو الضغط على قناعات القضاة، أو التعريض بأحكام القضاء واستقلاله .

وإن مما لفت نظري خلال الفترة الماضية، ما حدث من تجاوزات ٍ خطيرة لهذه المسلّمات، حتى وصل الحال أني اطلعت قبل مدة غير قصيرة على اتهامات ٍ خطيرة للقضاء واستقلاله، على لسان أحد من لهم صفة رسمية في إحدى الجهات الحكومية الهامة ، من خلال تغريدات ٍ له على حسابه في تويتر، وفي لقاء صحفي أجري معه، مما يشكل سابقة ً خطيرة ً يؤدي التهاون فيها إلى تعريض استقلال وحياد القضاء للخطر.

ولقد كفل النظام الأساسي للحكم في المملكة، المبني على قواعد الشريعة الإسلامية، ونظام القضاء والمرافعات الشرعية، لكل أطراف الدعوى القضائية ومن لهم صفة ومصلحة فيها، ممارسة حقوقهم المشروعة في الاعتراض على الأحكام، وأحاط النظام القضائي السعودي أحكامه بعشرات الضمانات القضائية التي تكفل لكل المتحاكمين عدالة ً على أحسن صورها. مما يعتبر معه تجاوز هذه الضمانات إلى ممارسات ٍ غير مقبولة تشكل خرقاً لاستقلال القضاء، جريمة ً تستوجب ضرورة التدخل العاجل لوقفها ، وضمان عدم تكرارها .

والحمد لله أولاً وآخرا .

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني