تكليف القضاة بأعمال إدارية
2015/10/10
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
بعد عقود من الزمن كان فيها القضاء السعودي يعيش حالة ركود ورتابة، ومنذ توجه الدولة نحو تطوير هذا المرفق والارتقاء به ليضطلع بجميع أعمال واختصاصات القضاء على أحسن المستويات ووفق أدق المعايير العالمية المتعارف عليها من ضمانات قضائية، ومحاكم متخصصة، ودرجات تقاضي؛ انتقل القضاء بعد كل ذلك إلى مرحلة مخاض عسير لولادة العهد الجديد للقضاء السعودي الذي تكتمل فيه كل متطلبات التنظيمات الجديدة الشمولية، ويصبح النظام القضائي الجديد واقعاً ملموساً، ويجني الجميع ثماره وينعمون بآثاره الحميدة بإذن الله.
وفي مقال قديم لي بتاريخ 13 /11/ 1430ه بعنوان (في تطوير القضاء.. حفظ الحقوق أولاً) ناقشت تأثير هذه المرحلة من الانتقال إلى تطبيق كافة متطلبات الأنظمة القضائية الجديدة، على حقوق المتقاضين، وكان مما جاء في المقال: "إن المتابع لحركة الجهات القضائية في هذه المرحلة يجد حالة من الارتباك الشديد في ما يحدث داخل المحاكم وديوان المظالم بفروعه من تعيينات متتالية وتنقلات للقضاة سواء كان انتقالاً مكانياً أو تغييراً في تشكيلات الدوائر القضائية في ديوان المظالم أو حتى ترقيات للاستئناف أدت لترك كثير من القضاة مواقعهم وانتقالهم إلى محاكم الاستئناف التي لا تزال تسمى بذلك صورياً في حين أنها لا تمارس فعلياً عمل الاستئناف، وقد أدى هذا الارتباك إلى إهدار كثير من الحقوق والتأثير السلبي في إنجاز القضايا المنظورة حالياً وتشتيت أذهان القضاة..".
واليوم أعود إلى هذا الموضوع بمناقشة زاوية منه لما لها من تأثير سلبي على جودة العمل القضائي، ألا وهي (تكليف القضاة بأعمال إدارية) والتي أصبحت مستشرية في الجهات القضائية على اختلافها وهو ما يدل على وضع غير سليم ينبغي الالتفات له وتصويبه بأسرع وقت، ولعلي هنا أوجز أبرز جوانب المشكلة على النحو التالي:
أولاً: مما لا يخفى على أحد أن وظيفة القضاء والقاضي الأساسية هي (الفصل في الخصومات) وليست مهمة القضاء الأصلية تقديم الاستشارات أو إدارة المكاتب أو غيرها من أعمال، إذ تعتبر تلك الأعمال استثناء على وظيفة القضاء الأصلية مما يحتم عدم التوسع في هذا الاستثناء.
ثانياً: أدى التوسع في تكليف القضاة بأعمال إدارية إلى تفريغ المحاكم من عدد كبير من القضاة الذين تحتاجهم هذه المرحلة، أشد الحاجة ولاسيما وأن هذا التكليف غالباً يكون للقضاة ذوي الخبرة الجيدة وليس للقضاة الجدد، وأصبحت محاكم الدرجة الأولى تشهد حالة من الارتباك الملحوظ وصار غالب قضاتها من القضاة الجدد الذين تعوزهم الخبرة المناسبة، وافتقدت القضاة الأكثر خبرة ما بين من شملهم الترقية لمحاكم الاستئناف أو من تم تكليفه بأعمال إدارية، وما بقي إلا الأقل منهم.
ثالثاً: من الحقائق التي يدركها كل رجال القضاء أن أول المتضررين من هذه الظاهرة هم القضاة أنفسهم، وذلك بأنه ليس من مصلحة القاضي ولا القضاء الانقطاع مدة طويلة عن ممارسة القضاء الحقيقي الذي هو: (الفصل في الخصومات، والتصدي لإدارة الجلسات، والجلوس على منصة القضاء، وإصدار الأحكام والاضطلاع بأعباء كتابتها وتسبيبها، وغير ذلك من الأعمال والإجراءات التحضيرية لإصدار الأحكام) لأن القاضي بابتعاده عن ممارسة هذا العمل يفقد جزءاً من مهارته، بل وأهم من ذلك يفقد جانباً كبيراً من اعتياده على هذه الأعمال ويبدأ يشعر بالراحة في عمله البعيد عن هذا الميدان الشاق، فإذا ما عاد يوماً إلى منصة القضاء وجد نفسه غريباً عليها، متأففاً من متطلباتها ومشاقّها، مفتقداً للكثير من الرصيد النفسي الذي كان يتحلى به في مواجهة الخصوم والصبر على مشاق المحكمة وأعمالها اليومية.
رابعاً: ينظر الكثير من القضاة إلى التكليف بأعمال إدارية أنها أصبحت ميداناً لمحاباة بعض القضاة دون بعض، باعتبارها صارت بمثابة الميزة والتكريم لا المشقة والتكليف، لأنها أولاً انفكاك وراحة عن مزاولة العمل الشاق اليومي في المحاكم، وثانياً أنها بمثابة الشهادة لهذا القاضي المكلف بتميزه بمهارات ومعارف أدت لاختياره لهذا التكليف والإفادة منه في هذه الجوانب، وكلا هذين الجانبين أصبحا ميداناً يتنافس فيه المتنافسون، ويغبط بعضهم بعضاً، وصار التكليف بالعمل الإداري ميزة يفرح بها من حصّلها، ويحزن لفقدها من فقدها، ووسيلة غير مباشرة لتكريم بعض القضاة وتمييزهم عن زملائهم، فإذا وجد البعض في نفسه أن هذا التكريم فاته إلى من هو أقل منه، أدى ذلك لإحباطه وإحزانه، وقد يؤثر ذلك على جودة عمله القضائي، فيكون المتضرر الأهم هم مراجعو المحاكم.
خامساً: لا يمكن المقارنة بين أهمية وحساسية الأعمال الإدارية التي يباشرها القضاة المكلفون بها، وبين خطورة وأثر العمل القضائي الأصلي من الفصل في الخصومات والتصدي لإصدار الأحكام ومباشرة عمل المحاكم اليومي، فالفارق بينهما تماماً كالفارق بين عمل القاضي الذي يفصل في الخصومات بحكم ملزم، والمستشار الذي يقدم رأياً غير ملزم، وخاضع للسلطة التقديرية لمرجعه في الأخذ به أو إطراحه، وهذا يجعل من غير الأصلح أن يكون أغلب القضاة المكلفين بأعمال إدارية هم القضاة ذوو الخبرة الأطول لممارسة العمل القضائي الذي هو مهمتهم الأصلية والناس محتاجون إليهم فيه.
سادساً: لعل من أهم طرق معالجة هذه المشكلة (بعد التأكيد على ضرورة قصر التكليف بأعمال إدارية على من تدعو الضرورة لتكليفهم دون توسع) أن يكون هذا التكليف محدوداً بحد أقصى من المدة لا يتجاوزها بحيث لا يتجاوز تكليف القاضي بعمل إداري سنة واحدة مثلاً، وهذا يحقق مصلحة عدم انقطاعه عن العمل القضائي الأصيل، ويتيح الفرصة لتوزيع أعمال التكليف على باقي القضاة حتى لا يختص به بعضهم دون بعض.
هذه أبرز جوانب المشكلة، أطرحها بين يدي معالي وزير العدل ومعالي رئيس ديوان المظالم – وفقهما الله – وهما من رجال القضاء الذين عايشوا كل إشكالاته ويدركون أكثر مما أدرك منها، راجياً أن يعاد النظر في هذه القضية، وأن يكون العنصر الأهم في بحثها هو: (مصلحة المتقاضين ومراجعي المحاكم) ومؤملاً أن نشهد اليوم الذي نرى فيه الكثير من رجال القضاء الأكفاء الذين انقطعوا عن ممارسة العمل القضائي الأصيل قد عادوا إلى مكانهم الطبيعي، ولاسيما وأن الكثير منهم يتم تكليفهم بالعمل الإداري قبل وصولهم لدرجة قاضي الاستئناف بعدة سنوات، ثم يجدون أنفسهم قد وصلوا لهذه الدرجة بعد انقطاع عن ممارسة العمل القضائي، فإذا باشروا العمل في محاكم الاستئناف قد يظهر ذلك على مستوى أدائهم، وقد يكون من قضاة الدرجة الابتدائية من سبقهم في الخبرة والمهارة لأنه مستمرٌ في العمل على منصة القضاء لم ينقطع بخلافهم.
وإني لأسأل الله عز وجل أن يوفق قياداتنا القضائية ورجال قضائنا إلى ما فيه الخير، وأن يحقق بهم وفيهم الآمال، ويقيم العدل ويرفع رايته في ظل دولة الإسلام وولاة أمرها حفظهم الله.