رسالة الشيخ الخريصي إلى القضاة
في رسالة جليلة القدر ، قيّمة المضمون ، صادقة ناصحة ، للشيخ صالح الخريصي ( ت 1415ه ) رئيس محاكم القصيم سابقاً " غفر الله له ورحمه وجمعنا به في الجنة " خاطب فيها القضاة وأوصاهم بوصايا عظيمة ، تستحق الوقوف أمامها طويلاً ، وتأملها بعناية ، واستلهام ما تضمنته من معان نافعة ، سيما وأنها خرجت من رجل من أعظم رجال القضاء ، معروف بالديانة والتقى والورع .
والشيخ الخريصي أحد رجال القضاء في العهد السعودي الذين قلت سابقاً إني أتمنى على وزارة العدل أن تعتني بتوثيق سيرتهم وأقضيتهم وما صدر عنهم من أحكام وتخصها بنشرها وطباعتها وتوزيعها على القضاة وغيرهم ، ضمن مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير القضاء ، واستخلاص المبادئ القضائية التي اشتملت عليها أحكام مشاهير القضاة السابقين على وجه الخصوص .
ورسالة النصيحة التي أتحدث عنها اليوم هي بعض آثار ومآثر الشيخ الخريصي " رحمه الله " التي أودع فيها من النصائح والوصايا العظيمة للقضاة ما يستحق النشر والتنويه ، وسأكتفي بإيراد بعض ما تضمنته هذه الرسالة دون تعليق .
إذ بدأ الشيخ رسالته قائلاً : تعلمون أيها الإخوان أنكم قد حملتم حملاً ثقيلاً، وطوقت برقابكم أمانة عظيمة ، وأنكم موقوفون بين يدي الله سبحانه ، ومسؤولون عن أدائها ، فأعدوا للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، ومن أعظم ما يستعان به على أداء هذه الأمانة أسباب :
أولها : تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية ، فإن بتقوى الله يتبين وجه الصواب قال الله عز وجل : ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) وقال تعالى: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا) وقال تعالى: ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) وقال تعالى: ( اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ) والآيات في هذا المعنى كثيرة ، ولهذا لما قيل للإمام أحمد "رحمه الله " من نسأل بعدك ؟ قال : سلوا عبدالوهاب الوراق فإنه رجل صالح مثله يوفق للصواب واستدل الإمام أحمد " رحمه الله " بقول عمر : اقتربوا من أفواه المطيعين ، واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنهم تجلى لهم أمور صادقة ، وذلك لقرب قلوبهم من الله ، وكلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء ، وكان كشفه للحق أتم وأقوى ، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات ، وضعف نور كشفه للصواب ، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب يفرق به العبد بين الخطأ والصواب .
ومنها : أن يكون قويًّا على حمل ما كلف به من غير عنف يمنع صاحب الحق من استيفاء حقه ، ومن غير ضعف يجترئ به صاحب الباطل عليه وعلى خصمه، قال عمر بن عبدالعزيز " رحمه الله ": لا يصلح القاضي إلا أن تكون فيه خصال : أن يكون صليبًا نزهًا عفيفًا حليمًا عليمًا بما كان قبله من القضاء والسنن . ومن ذلك أن يكون ذا بصيرة وبصر بأهل زمانه لا سيما أهل هذه الأزمان ، فإن أكثرهم أروغ من الثعالب ، وليحذر حلاوة ألسن أكثرهم ، فإن لهم في ذلك أهدافاً وأغراضًا وحوائج يحومون حول تحصيلها بكل ممكن.
ومنها : أن يكون ذا أناة يتثبت وفطنة فيما يحكم به.
ومنها : أن لا يعجل في البت بالحكم حتى يتبين له وجه الصواب من غير تأخير يخل بالمقصود ويوجب للضعيف ترك حقه ، كما قال عمر في كتابه لمعاوية رضي الله عنه : وتعاهد الغريب فإنه إن طال حبسه ترك حقه وانطلق إلى أهله وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا.
ومنها : الحرص على لزوم العمل والمبادرة إليه في أوقاته لإنجاز مهمات المسلمين وقضاء حوائجهم ، فإن كثيرا من إخواننا هداهم الله يرددون الخصوم أكثر من الحاجة من غير سبب يدعو إلى ذلك.
ومنها : أن يعلم القاضي أن الخصومات ستعاد يوم القيامة ويحكم فيها العدل الذي لا يجور ، وإنما القضاء في الدنيا للفصل بين الناس ، فليتئد عند ذلك وليتلمح وجه الصواب في القضية مهما أمكنه من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان وعلماء الشريعة الذين لهم لسان صدق في الأمة ، فإذا اجتهد وبذل وسعه وطاقته حسب الإمكان رجي له أن يوفق لإصابة الحق ، وأن لا يفوته أجران مع الصواب أو أجر مع الخطأ ، ولا ينظر إلى كثرة الأساليب التي استعملها بعض القضاة خشية أن يقال في حكمه أو يُعترض عليه ، بل إذا تبين له الحق حكم به ولا يبالي بمن اعترض عليه أو قال في حكمه .
ومنها : أنه ينبغي له إذا خفي عليه وجه الصواب ، وأعيته الأمور بإغلاق الأبواب ، أن يستغيث بمعلم إبراهيم ، فإن هذا من أنجح الأسباب الموصلة إلى المقصود ، كما ذكرت الأصحاب أنه ينبغي للقاضي أن يدعو بدعاء الاستفتاح (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية " رحمه الله " يكثر الدعاء بذلك ، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول يا معلم إبراهيم علمني ، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء : (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) وكان مكحول يقول : (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وكان مالك " رحمه الله" يقول : (ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم) وكان بعضهم يقول : ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) وكان بعضهم يقول : (اللهم وفقني واهدني وسددني واجمع لي بين الصواب والثواب وأعذني من الخطأ والحرمان) وكان بعضهم يقرأ الفاتحة ، قال العلامة ابن القيم رحمه الله : (جربنا ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة) وقال النبي لعلي : « قل : اللهم إني أسألك الهدى والسداد " والمعول في ذلك كله على حسن النية ، وخلوص المقصد ، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه .
رحم الله الشيخ الخريصي وجزاه عنا خير الجزاء ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه