فساد من نوع آخر

وزارة العمل
مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

رغم أن مفهوم الفساد في الجهات الحكومية يقتصر غالباً على الفساد المالي واستغلال الوظيفة للحصول على منفعة شخصية، أو أموال غير مشروعة مقابل أداء الموظف لعمله، إلا أن ما يحدث في مكتب العمل في الرياض (وأخصه بالحديث لأنني لم أقف على واقع غيره من مكاتب العمل التي قد تكون مثله أو أقل أو أسوأ) من سوء تعامل مع المواطنين، وتقديم الخدمة لهم بطريقة لم أشهد في أي مرفق أو قطاع أكثر سوءاً منها، تجمع بين لامبالاة الموظفين بأداء أعمالهم، وعدم اكتراث بقيمة المواطن الذي يقف أمامهم من وراء زجاج، إذ يكلمهم الموظف ويتعامل معهم بتأفف ولامبالاة، حتى لترى المواطنين وقوفاً في صفوف طويلة منذ ساعات الصباح الأولى قبل بداية وقت الدوام بكثير، ينتظرون وصول الموظفين لقضاء احتياجاتهم، بطريقة غاية في التخلف والبدائية، إذ يتم توزيع أرقام ٍ لمن يقفون في تلك الطوابير الطويلة، ومن تأخر ولو قليلاً حتى انتهى توزيع الأرقام فقد فات عليه الحصول على الخدمة ذلك اليوم ! ثم إن توزيع الأرقام غالباً يتولاه العسكري المتواجد في تلك الصالة، في مخالفة صريحة للأنظمة، إذ ما علاقة العسكري بمباشرة أعمال هي من صميم اختصاص الموظفين المدنيين؟

ولا أعرف إلا أن وجود العسكري في تلك الصالة إنما هو لحفظ الأمن والحماية فقط.

ثم إذا أتيت إلى الآلية التي يسير عليها الموظفون في تقديم الخدمة وإنجاز المعاملات، تراها في منتهى البيروقراطية والتخلف، فالإجراءات غير واضحة، وصاحب طلب الاستقدام يضطر للمراجعة مراراً، في كل مرة يخبره الموظف بوجود نقص في أوراقه أو ملاحظة عليها تمنع من قبول طلبه، ولا يتم إخبار المراجع بذلك فور تقديمه لطلبه، بل بعد مدة قرابة أسبوعين حين يراجع ُ معتقداً أن طلبه الذي قدمه تم إنجازه، فإذا به يفاجأ بوجود ملاحظة أو نقص في أوراقه لابد من استكماله، وبعد أن يستكمله ويعيده، يوعد مرة أخرى بالمراجعة بعد عشرة أيام أو أكثر، ليفاجئ من جديد بوجود نقص آخر في أوراقه، وهكذا إلى ما لا نهاية .

وأذكر ذات مرة أنني كنت واقفاً في أحد هذه الطوابير قبل عدة أشهر والناس في حالة سيئة جداً من الامتعاض والسآمة من هذا الطابور الذي لا يتحرك، فإذا بأحد المراجعين فجأة يرفع صوته بالصياح ويغني ويرقص رقصة العرضة السعودية !! فاعتقد الجميع في البداية أنه مجنون، وما هي إلا لحظات حتى عاد إليه سكونُه وهدأ ثم صاح قائلاً : من ستة أشهر وأنا أروح وأرجع حتى حصلت اليوم على تصريح الاستقدام، لا تلوموني يا جماعة والله فقدت صوابي!! .

لست ُ من المكثرين في مراجعة مكتب العمل لعدم حاجتي إليه كثيراً، لكن في المرات القليلة التي اضطررت لمراجعته فيها رأيت حالة لايمكن السكوت عليها من سوء الخدمة، وسوء المعاملة، وانخفاض قيمة المواطن عند بعض موظفي مكتب العمل لدرجة تستدعي التصحيح وسرعة التدخل .

وقد كان هاجس الكتابة في هذا الموضوع موجوداً عندي منذ اللحظة الأولى التي شهدت ُ فيها هذه المواقف، إلا أنني آثرتُ التريث طويلاً في انتظار ما يمكن أن يحدث من إصلاح لهذا الوضع، لما أراه من نشاط لعموم وزارات الدولة التي أصبحت تتسابق في تعديل إجراءاتها، وإصلاح خدماتها، ومعالجة ما يحول بين حصول المواطن على الخدمة بالطريقة اللائقة بقيمته وكرامته، ومدى رعاية الدولة واهتمامها وحرصها على ذلك . ولكن مضى ما يقرب من سنتين من أول زيارة ٍ لي إلى مكتب العمل دون أي تغيير ٍ ملحوظ، وما زالت معاناة المواطن مستمرة هناك .

كما أنه في ظل تسابق المرافق العامة والجهات الخدمية في إدخال التقنية إلى خدماتها، والقضاء على الطرق البدائية والإجراءات القديمة العقيمة، لم أر في مكتب العمل أياً من ذلك .

ومن اللافت للنظر في هذا السياق الاختلاف الجذري والهائل، لدرجة تصعب المقارنة معها، بين مكتب الاستقدام في وزارة الداخلية، وبين مكتب العمل، فالبون شاسع ٌ والفارق لا يقاس بينهما، سواء في حسن التعامل، أو سرعة الخدمة، أو شفافية ووضوح الإجراءات .

وأنا هنا أتساءل : أليس لهيئة الرقابة والتحقيق أي دور في ملاحظة ورصد مثل هذه المشاكل والمخالفات ؟

ألم يحدث يوماً أن يقف مفتشو الهيئة بأنفسهم على معاناة المراجعين لمكتب العمل، ويسمعوا من الناس ما يواجههم من صعوبات ومعوقات في سبيل حصولهم على الخدمة المستحقة لهم بالطريقة اللائقة والمناسبة ؟ أم أن مفتشي هيئة الرقابة محصورون فقط بمسائل الحضور والانصراف للموظفين دون بقية المخالفات؟

أليست قيمة المواطن أو الإنسان عموماً وكرامته وحصوله على الخدمات الحكومية وغير الحكومية دون أدنى درجة إساءة، من أولويات الجهات الرقابية؟

إن ما رأيته مراراً وما أراه مستمراً من هذه المخالفات في مكتب العمل، لفساد من نوع آخر يستدعي سرعة التصحيح والمعالجة، والوقوف أمامه بحزم حتى يشهد المواطن الواقف ُ أمام الموظف من وراء زجاج، بنفسه هذا التحسن والتصحيح ويشعر به في الخدمة المقدمة إليه.

وأسأل الله أن يوفق كل مخلص ناصح لأمته ووطنه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه..

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني