القرار بين اعتبارات المسؤول ورؤية الناقد
لعل من أبرز الظواهر التي نعيشها اليوم فيما يتعلق بالشأن الوطني الداخلي، ازدياد وتيرة النقد لأداء الجهات الحكومية والوزراء والمسؤولين، وليس مجرد النقد الطبيعي المعتدل البناء ؛ بل تجاوزه كثيراً إلى حد جعل الأستاذ عبدالوهاب الفايز يكتب مقالاً يعلق فيه على تعيينات وزارية جديدة، أسمى ذلك المقال: (هل نهنئ المسؤولين الجدد أم..؟) نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ 6/6/1434ه وقد وصف فيه هذه الظاهرة وصفاً دقيقاً واقعياً، وكان مما قال: ".. فالوظيفة العامة هذه الأيام لا يهنأ أصحابها.. ولكن حقهم (الدعاء والشفقة)، بالذات الآن بعد تطور الظاهرة الجديدة للاحتجاج على كل شيء، ونزوع نجوم ثقافة الاستهلاك الإعلامي الجديد إلى تجميع الأتباع، وتحول أغلب قادة الرأي في الإعلام إلى مفتشين عن الغريب المثير ويتلمسون.. (الجزء الفارغ من الكأس!) ".
وفي مقالي اليوم أحاول مناقشة مسألة بالغة الأهمية أتمنى لو قرأها واستفاد منها المنصفون من ممارسي النقد لأداء المسؤولين والجهات الحكومية، وأقول المنصفين لأني أعلم يقيناً أن من يفتقر للإنصاف ولا يهمه العدل في القول، ليس هناك أي مساحة للالتقاء معه أو مناقشه فهو ينتقد لذات النقد لا للإصلاح، وينتقد للبحث عن الجماهيرية والشهرة أو لتصفية حسابات شخصية مع المسؤول أو لغير ذلك من مقاصد.
كما أن الفكرة التي أود عرضها اليوم موجهة أيضاً لمن يمارس النقد وهو من أهل الاختصاص في الموضوع الذي يتناوله وينتقد فيه، لأنه لا عبرة بانتقاد من ليسوا من أهل التخصص، إذ لا قدرة لهم على استيعاب كافة جوانب الموضوع ولا فهمه.
بعد هذه المقدمة التي لا بد منها أعود للدخول في صلب الموضوع، ألا وهو:
أننا حين ننظر إلى موضوع النقد نجده (القرار الذي يصدر عن المسؤول أياً كان موقعه وحجمه في المسؤولية) ونجد أن هذا القرار يقع في منطقة وسط، بين اعتبارات المسؤول الذي أصدره مراعياً لها، وبين رؤية الناقد الذي يوجه نقده إلى هذا القرار بحسب ما يراه فيه من أخطاء أو أضرار.
وأنا هنا أنطلق من تجارب شخصية لي عايشتها في نقدي لبعض القرارات، سواء أكان النقد من خلال وسيلة إعلامية، أم من خلال لقاء مباشر مع أحد المسؤولين الذين يتاح لي لقاؤهم وأجد منهم قبولاً وترحيباً بالنقد.
إذ من بين هذه القرارات التي كنت أنتقدها بشدة ما تغير حكمي عليه إلى حد كبير حين اطلعت على الاعتبارات التي دعت ذلك المسؤول إلى اتخاذه. بل إن أحد كبار المسؤولين طلب مني مرةً أن أصيغ مشروع قرار يلغي القرار الذي كنت أنتقده، بعد أن أوضح لي الاعتبارات التي كان يراعيها حين أصدره، وقال لي: إذا نجحت في صياغة قرار بديل يلغي القرار القائم حالياً دون أن يترتب عليه أي سلبيات أخرى أكثر ضرراً، فأنا على استعداد لإصدار القرار الذي تقترحه فوراً.
وفعل اً أخذني الحماس ووعدته بالعمل على هذا الموضوع، وباشرت استشارة المختصين – وأنا مختص أيضاً لأن الموضوع قضائي – وفوجئت أنه كلما حاولنا إغلاق ثغرة فتحنا ثغرتين، وكلما قضينا على سلبية أحدثنا أعظم منها !! وأقسم بالله أننا انتهينا بقناعة تامة أنه لا أصلح من هذا القرار، الذي كنت أراه بالأمس من أسوأ القرارا!!.
وقبل أيام أيضاً كنت في لقاء مع مسؤول آخر، وباشرت الحديث معه عن إجراء متبع في إدارته، قلت له هذا الإجراء غير صحيح وليس فيه مصلحة، وينبغي أن يكون كذا وكذا.. فرد علي فوراً: لو عملنا ما تقول، لحدث كذا وكذا.. وهي مخاوف حقيقية وصحيحة تماماً. ولا أحب التصريح بمواضيع هذه المواقف لأنها قد تثير جدلاً ليس المقال بحاجة إليه، إنما الهدف هو إيصال الفكرة.
ويمكنني القول: إن المسؤول القيادي وهو يختار القرار المناسب من بين نصوص القانون، يشبه إلى حد بعيد الفقيه في اختياره للحكم الشرعي من بين نصوص الشرع، فكلاهما يستعمل أدوات متشابهة كثيراً، في البحث عن الأكثر تحقيقاً للمصلحة وموافقةً للنظام في آن واحد.
والقاعدة الأصولية الشهيرة تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. إذاً كلما كان التصور أوسع وأعمق كان الحكم أدق وأعدل.
وهذه القاعدة نحتاجها كثيراً في ممارستنا للنقد الموضوعي لقرارات المسؤولين، ولكن لا يفوتني أبداً التأكيد على أن الاستفادة من هذه القاعدة مشروط بعدة شروط أهمها:
أولاً: أن يكون الناقد شخصاً سوياً ينطلق من منطلقات واقعية، وليس كما هو مشاهَد كثيراً ممن يؤمن أو يمارس التلويح بنظرية المؤامرة في كل شيء، فأسهل ما يمكن أن يعيب به القرار أنه مؤامرة تغريبية.
ثانياً: ما سبق وأوضحته من أن يكون ممارس النقد يهدف فعلاً للإصلاح ولا ينطلق من منطلقات أخرى شخصية مشبوهة.
ثالثاً: أن يكون من أهل الاختصاص والفهم في الموضوع الذي يناقشه وينتقد فيه.
رابعاً: أن يمتلك المعلومات الكافية، والفهم الواسع لظروف ذلك القرار التي صدر فيها وملابساته.
خامساً: أن يمتلك أيضاً الشجاعة على الرجوع إلى الحق متى ظهر له، بل والاعتذار عن أي خطأ وقع فيه دون قصد، وأن يعلن ذلك بنفس القوة التي كان يعلن بها انتقاده للقرار.
جعلنا الله جميعاً من أهل العدل في القول والعمل، والحمد لله أولاً وآخرا..