أحرامٌ على الموظف حلالٌ على الإدارة ؟

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

من المعلوم أن نظام مكافحة الرشوة في تجريمه لصور جريمة الرشوة، وتحديد العقوبات عليها، إنما اقتصر على جريمة الرشوة التي يرتكبها موظفٌ عام. وعددت المادة الثامنة من النظام أصناف من يدخلون تحت وصف (الموظف العام). وكذلك من المتقرر في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية أن جريمة الرشوة هي وصفٌ لفعل جُرميٍ يرتكبه الفرد حين يكون موظفاً عاماً في الدولة، بأخذه مبالغ مالية لا تحلّ له مقابل إخلاله بواجبات عمله، أو حتى مقابل قيامه بواجبه.

يجب أن يكون من أولويات الجهات الرقابية، وعلى رأسها هيئة محاربة الفساد، التصدي لأي ممارسات تنطوي على الإذعان والإكراه الذي تمارسه بعض الجهات الحكومية لمحتاجي خدماتها، خاصة من المقاولين والمستثمرين.

وهذا هو الأصل في جريمة الرشوة أنها جريمة فرد. ولكن إذا نظرنا إلى هذه الجريمة من زاوية أن الموظف العام يأخذ هذه الرشوة مقابل الاستجابة لطلب الراشي، بتسهيل معاملته، أو الموافقة على طلبه، في حين أنه إذا لم يدفع هذا المبلغ فلا يتمّ له ما أراد؛ أقول إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية نجدُ أن هناك بعض الجهات الحكومية تُمارسُ نفس الفعل، وترتكب هذه الجريمة بذرائع مختلفة، وأساليب ملتوية، مستغلة ثغرات نظامية، أو سلطتها التقديرية.

هناك بعض الجهات الحكومية تُجبر المحتاجين لخدماتها – خاصة من المستثمرين ورجال الأعمال – على دفع أموال طائلة لها، دون أي حق ولا مقابل، بمسميات مختلفة، كدعم جهودها في أعمال تطوعية، أو رعاية أنشطة معينة تقوم بها، أو تحت أي مسمى كان . فمن استجاب وخضع بدفع ما يُفرض عليه ؛ تُيسّر إجراءاته، وتُجاب طلباته، حتى ولو كان بكثير من التجاوز النظامي. أما من امتنع فإن مصير أعماله ومصالحه إلى التعطيل والمماطلة.

وغالباً ما تكون مثل هذه الأموال مرتعاً خصباً لانتفاع كبار موظفي تلك الجهة، بمعزل عن أعين الجهات الرقابية، ودون الحاجة لتقنين صلاحيات السحب والإيداع والتصرف .

ولئن كان الكثير سيخالفونني الرأي في عقد هذه المقارنة بين جريمة الرشوة، وهذه الممارسة في بعض الجهات الحكومية، إلا أني أظن أنه لا يخالفني أحد في عدم مشروعية هذه الممارسة، ووجوب وضع حدّ لها، والتشديد في الرقابة عليها.

ومن أكثر الجهات الحكومية التي تكثر فيها ممارسة مثل هذه التجاوزات، البلديات وأمانات المناطق، ولدي الكثير من الشواهد المثبتة لهذا الأمر. الذي لا يخفى على أي مقاول أو مستثمر يتعامل مع الأمانات.

فلماذا يُجرّم ويُحرّم الفعل على الموظف الفرد، بينما يتاح دون أي رقابة ولا مؤاخذة للجهة الحكومية ؟!

إن الأهداف والغايات التي حُرّمت لأجلها الرشوة على الفرد، متوافرة ٌ في هذا الفعل. وإن الأضرار والمفاسد التي حُرّمت الرشوة لأجلها على الموظف الفرد أيضاً موجودة ٌ في هذه الممارسة.

يجب أن يكون من أولويات الجهات الرقابية، وعلى رأسها هيئة محاربة الفساد، التصدي لأي ممارسات تنطوي على الإذعان والإكراه الذي تمارسه بعض الجهات الحكومية لمحتاجي خدماتها، خاصة من المقاولين والمستثمرين.

ومن جانب آخر يجب أن يكون هناك مراجعة دقيقة حازمة لأي ممارسة للجهات الحكومية التي تُعامل المقاول والمستثمر دوماً على أنه (مشروع ٌ سهلٌ للاستغلال) فلئن كانت قوانين وأنظمة الاستثمار في كثير من الدول المتقدمة، تهدف إلى تشجيع المستثمر وتذليل العقبات أمامه، وتطويع الأنظمة لتشجيعه على الاستمرار والنمو، وحماية حقوقه حماية ًصارمة، باعتباره شريكا حقيقيا فاعلا في تحقيق أهداف التنمية ؛ فإن من المؤسف جداً أن تتعامل كثيرٌ من جهات الإدارة لدينا مع المستثمر والمقاول، على أنه فرصة لها لتتربح على حسابه، ولو ظلماً وعدوانا.

وبدلاً من تشجيع وحماية المستثمر، انقلبت المعادلة إلى (استثمار المستثمر) !!.

ويزيد ُ هذه المشكلة تعقيداً، ويُغريها على الاستفحال والاستمرار ؛ الضعف الملحوظ، في رقابة القضاء الإداري لدينا على مثل هذه الممارسات. فالنسبة الغالبة لأحكام القضاء الإداري لدينا، تجعل من أسمى غاياتها حماية الإدارة، وإحاطة أخطائها الواضحة بسياج من النظريات والاجتهادات الغريبة التي لا نجدها إلا لدينا في المملكة، التي تهدف في المقام الأول إلى خروج الإدارة من الدعوى سالمة أو بأقل الخسائر .

وهذا ما سبق لي تناوله في مقال بعنوان : (القضاء الإداري، حارس المشروعية، لا المال العام) .

إن هذه الصيغ والأشكال والأساليب المتنوعة التي تستجلِبُ فيها جهاتُ الإدارة أموال التجار والمستثمرين والمقاولين، لا يمكن أن تساهم في إرساء التطبيق العادل المتساوي للنظام بين الجميع. بل سيبقى دوماً التميز والأولوية لمن يدفع، أو لمن يدفع أكثر.

وهذه صورة بشعة من صور الاستغلال والاحتيال والاستيلاء على أموال الناس دون وجه حق، يجب أن تتنبه لها عينُ الرقيب، وتحاربها، وتوقع أقسى العقوبات بمرتكبها .

وإذا كان أخذ الموظف العام لأموال الناس مقابل قيامه بواجبه، يعد جريمة نكراء، فإن ممارسة الإدارة لنفس هذا الدور أكثر نكارة.

فحقوق المراجعين لجهات الإدارة والمتعاملين معها يجب أن تُحمى وتُكفل بقوة النظام .

وهذا من أولى أولويات الجهات الرقابية فأسأل الله أن يعينها على القيام به وتحقيقه.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني