مسؤولية المريض النفسي عن أفعاله
ما بين حين وآخر تطالعنا وسائل الإعلام بأخبار جرائم يقشعر لها البدن، وتهز سكون المجتمع، لبشاعتها ووحشيتها، وفي كل مرة يقال إن مرتكب الجريمة: (مريض نفسي) ثم يتوقف الخبر عند هذا الحد ولا يعرف الناس مآل القضية ولا الإجراء المتخذ فيها.
وكذلك في بعض القضايا الجنائية قد يتقدم المتهم أو وكيله للقضاء بتقارير طبية تثبت إصابته بمرض نفسي، وذلك في محاولة لإفلاته من العقوبة المقررة على الجريمة المنسوبة إليه.
ولعل كثيراً من الناس يتساءل: ما مدى مسؤولية المريض النفسي عن أفعاله وما يصدر عنه من اعتداء على الآخرين بالقتل أو الضرب أو السرقة أو غيرها؟
وهل كل مريض نفسي يمكن أن يفلت من العقوبة بالكامل لمجرد إصابته بمرض نفسي؟ وهذا ما سأحاول اليوم بيانه موجزاً - بإذن الله -. فأقول:
لقد شاع استخدام وصف (المرض النفسي) وإطلاقه على كل شخص يظهر عليه علامات عدم الإدراك، والعجز عن التكيف مع المجتمع والقدرة على التفاهم والتواصل مع الناس. بل يطلق الناس غالباً على من يتصف بهذه الصفات وصف (الجنون) ولا يفرق الناس غالباً بين الأمراض النفسية أو الأمراض العقلية، وهذا ما جعل كثيرين يتحرجون من مراجعة عيادات الطب النفسي، والاستعانة بالأطباء النفسيين، وذلك خشية أن يوصفوا ب (الجنون).
بينما الصحيح أن هناك فرقاً كبيراً بين الأمراض العقلية، والأمراض النفسية ؛ فالمرض النفسي ينشأ عن عوامل نفسية، بينما المرض العقلي ينشأ عن اختلال عضوي أو وظيفي في الجهاز العصبي. والمرض العقلي هو: (اختلال العقل) وهو ما يسمى ب (الجنون)، أما المرض النفسي فهو: اضطراب في السلوك، تزيد وتنقص درجته من حالة لأخرى، ولا يفقد العقل بالكامل، بل يبقى الإنسان أحياناً قادراً على العمل والتواصل مع الناس، ولكن مع وجود بعض الاضطرابات والانحراف في سلوكه.
ففي الأمراض العقلية التي توصف ب (الجنون) لا شك أن المصاب بها لا يؤاخذ بتصرفاته، لأن من شروط المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، أن يرتكب الإنسان الفعل المحرم، أو الجريمة، وهو مدرك لحقيقة فعله، ومختار غير مكره.
أما في الأمراض النفسية فإنها تختلف درجاتها وشدة حالاتها، من شخص لآخر، ويترتب على هذا الاختلاف اختلاف المسؤولية عن الأفعال التي يرتكبها المريض النفسي.
فإن كان المرض النفسي الذي أصيب به الإنسان يفقده عقله وإدراكه، فإنه تنتفي عنه المسؤولية الجنائية، ولا يمكن معاقبته عن الجرائم التي يرتكبها.
أما إن كان مرضه النفسي لم يؤثر على عقله، ولا إدراكه وقدرته الحكم على الأشياء، فإنه يؤاخذ بأفعاله، ولا يؤثر مرضه على مسؤوليته الجنائية، إلا أن المرض قد يكون سبباً لتخفيف العقوبة عنه.
وبناءً على ذلك فإن تحديد التشخيص الصحيح لحالة الشخص الذي يرتكب الجريمة وهو يعاني أياً من هذه الأمراض، لا بد أن يكون على يد أطباء مختصين موثوقين، يستعين بهم القضاء.
وبعد هذا البيان الموجز يحسن التنويه إلى مسألتين هامتين هما:
أولاً: أن فاقد أو ناقص الأهلية إذا ارتكب أي اعتداء على غيره، فإنه لا يسقط عنه الجزاء المالي على جريمته، مثل دية القتل أو دية إتلاف عضو من أعضاء إنسان، أو ضمان ما أتلفه فاقد أو ناقص الأهلية من مال غيره، يدفعه عنه وليه. إنما الذي يعفى عنه هو العقوبة البدنية فقط.
ثانياً: أنه في ظل تكاثر جرائم المصابين بالأمراض العقلية أو النفسية، تصبح المسؤولية أكبر على الجهات المختصة في اتخاذ التدابير الواقية، التي تكفل حماية الناس من اعتداء هؤلاء المرضى على أرواح الناس وأموالهم، خصوصاً اعتداء المريض النفسي على أفراد أسرته، أو على الضعفاء مثل الأطفال والنساء.
فكم هي الحالات التي كان بالإمكان تلافي ما وقع فيها من جرائم بشعة، لو أن الجهات المختصة قامت بواجبها تجاه التحفظ على المرضى النفسيين، وعلاج من يمكن علاجه منهم، وعدم تركهم يعيثون في الناس وأرواحهم فساداً؟
وكم من حالة تمر على مراكز الشرطة، أو المحاكم لأشخاص قاموا بالاعتداء بالضرب على أسرهم وزوجاتهم وأطفالهم، بطريقة يظهر معها أن المعتدي شخص غير سوي، ومع ذلك يكتفى بأخذ التعهد عليه وإطلاقه حتى تقع الفأس في الرأس، ونصحو على خبر ارتكابه لجريمة من أبشع الجرائم في حق أقرب الناس إليه!
من المسؤول عن هؤلاء الضحايا؟ يجب محاسبة كل مقصر. كما يجب تدارك المستقبل وعدم التأخر في اتخاذ التدابير الواقية من هذه الجرائم.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.