وفي كل شأن لنا معركة
تبدأ قوة الأمم من داخلها، وكلما كانت الأمم والشعوب متماسكة من الداخل كانت مستعصية على العدو من الخارج. ولهذا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم رحمه الله أنه قال : " سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا ".
إذاً فالخوف على الأمة إنما هو من داخلها، ومتى ما كفاها الله شرّ فتنة الداخل فهي عن خطر الخارج أبعد، ومنه في مأمن بإذن الله.
كما أخبر الله عز وجل في كتابه أن الشقاق والنزاع هو سبب الفشل وذهاب الريح، قال تعالى : " .. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.. " والريح هي القوة.
ومن لطائف هذه الآية العظيمة أن الله عز وجل قبل أن ينهى عن التنازع مباشرة ً قال سبحانه : " وأطيعوا الله ورسوله " فطاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم هي صمام الأمان لعدم وقوع التنازع المفضي إلى الفشل والتفتت وضياع القوة، وذهاب الاستقرار والتماسك ؛ لأنه بطاعة الله ورسوله يكون مصدر التلقي واحداً، والمرجعية للأوامر واحدة، وعندئذ فلا محل للتنازع
ومن طاعة الله ورسوله طاعة ولي الأمر كما هو معلوم وثابت، فمتى تحققت هذه الأركان كانت الأمة أمة واحدة متماسكة قوية، عصية على العدو الخارجي.
وبنظرة سريعة لما تشهده الساحة مؤخراً داخل المجتمع السعودي، ندرك مدى التنازع والتناحر الفكري الذي يعصف بنا عند كل قضية، وبسبب كل حادثة تقع، إذ بمجرد ما تقع حادثة فردية، وتتناقلها وسائل الإعلام، حتى نرى المجتمع أصبح أشتاتاً، والنزاع والشقاق قد استشرى بينهم، حتى يؤدي بهم إلى الابتعاد كثيراً عن أصل المسألة، إلى أن يصل بهم إلى مراحل أشق ّ وأبعد من التكفير والتفسيق والتبديع والتصنيفات الفكرية وإثارة العنصريات الطائفية، وتقاذف التهم والشتائم، واستشراء البغض في القلوب، وتنافر الأرواح، بما يكون أثره أقبح وأخطر من أي نتيجة يطمح العدو الخارجي إلى تحقيقها وإلحاقها بنا.
إن استغراق الجهود، وصرف الطاقات، وإهدار الأوقات، في مثل هذه المنازعات الفكرية، والصراعات الاجتماعية، لهو أعظم خسارة وأكبر خطر يمكن أن تصاب به أمة من الأمم.
إنه قتل لروح الاجتماع والألفة ووحدة الصف، التي أمرنا الله بإحيائها، والتمسك بها، والسعي إلى تحقيقها بكل الوسائل " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما" .
ما ظننا بشبابنا الذين يتابعون مثل هذه الصراعات، وينشأون على هذه الانشقاقات الفكرية، والمظاهر البغيضة من التنافر والتنابز والبغضاء وتقسيم المجتمع الواحد إلى تصنيفات قذرة، وأوصاف ضالة، ما أنزل الله بها من سلطان، وما عند من أطلقها أدنى دليل أو برهان، إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
إني والله أحزن وأنا أرى شباباً كان الأجدر بهم أن ينصرفوا إلى ما فيه صلاحهم، وازدهار ونماء أوطانهم، أراهم منخرطين في مثل هذه الصراعات، التي لا تربيهم على بناء وطن، ولا تذكي فيهم روح الوحدة، ولا تقربهم إلا إلى الخواء الفكري، والإفلاس الأخلاقي، والانحطاط المعرفي.
هل أصبحنا نهوى النزاعات، ونعشق الصراعات، ونستفرغ طاقاتنا المكبوتة في توهم الانتصارات على بعضنا البعض ؟ هل انتهت مآسي أمتنا، وتلاشت الأخطار من حولنا، وتحققت كل طموحاتنا في البناء والنهضة، لننكفئ على هذا السلوك البغيض من التشرذم والصراع والتنازع عند كل حادثة تستجد، مهما كانت صغيرة تافهة ؟
ثم ما هو الدور الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام، وبعض الإعلاميين، الذين يجدون في مثل هذه الأحداث صيداً ثميناً للارتقاء به إعلامياً على أكتاف وحدة الأمة، وألفة قلوبها، فإذ ببعضهم يسعى بكل طاقاته لسكب البنزين على النار، وتأجيج الخلاف باستضافة أقطابه ليزيدوا شراً إلى شرهم، وشقاقاً إلى شقاقهم، ويتقاذفون بينهم الشتائم والاتهامات، يحشد كل واحد منهم أنصاره، وينادي أتباعه، وقيل للناس : هل أنتم مجتمعون ؟
إن أمة ً لا تعبأ بأمر وحدة صفها، واجتماع كلمتها، لا تستحق النصر والتمكين.
وإن شعباً يبحث عما يمزقه ويفرقه، أكثر مما يحفل بما يجمع شمله ويؤلفه، ليس من العز والأمن والنهضة بقريب.
فإذا ما أردنا سلوك طريق العزة والنصر، واتباع سبيل النهضة والبناء، فإن أول خطوة نحو هذا الطريق هي في نبذ هذه السلوكيات البغيضة، والارتقاء بالفكر والوعي والأخلاق عن هذا الحضيض الذي أشقانا البقاء فيه طويلاً، وأضاع أجيالنا وطاقات شبابنا كثيرا.
فهل فيكم رجل رشيد؟
أسأل الله أن يبعث في قلوبنا الوعي، وفي عقولنا الرشد، وأن يهدينا سواء السبيل .