أصحاب الفضيلة القضاة .. العدل وحده لا يكفي
يخطئ من يعتقد أن القاضي المسلم مطالب ٌ ومأمور ٌ شرعاً بالحكم بالعدل فقط، ذلك أن مما يميز القاضي المسلم عن القاضي غير المسلم أن المسلم مأمور ٌ بالعدل والإحسان معاً وليس العدل ُ فقط، فالله تعالى يقول: ''إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ِ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون'' سورة النحل (آية 90). هذه الآية العظيمة قد جمعت خيري الدنيا والآخرة في كلمتين وكما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال عنها: إنها أجمع ُ آية ٍ في القرآن للخير والشر. وقبل الاسترسال ومن باب الأمانة العلمية أنبه إلى أن فكرة هذا المقال مستقاة من فائدة ٍ علمية ٍ استفدتها من أخي فضيلة القاضي في ديوان المظالم الشيخ عبد الرحمن الجوفان ـ وفقه الله . ثم أعود للحديث عن الموضوع فأقول: مع أن الحكم بالعدل هو الغاية الأسمى التي يسعى القضاء في كل الشرائع والقوانين إلى تحقيقها والوصول إليها، إلا أن القضاء في الإسلام يتميز بأن له غايتين ساميتين هما ما تضمنته الآية الكريمة (العدل والإحسان). وقد يتساءل البعض: ما الإحسان الذي يؤمر به القاضي المسلم؟ والجواب: إن الإحسان المقصود هنا هو كل ُّ ما يشمله اسم الإحسان وأبرز ُ ذلك معنيان هما: ( إتقان العمل – ورحمة ونفع الخلق ). فالقاضي المسلم حين يمارس عمله بنظره للخصومات بين الناس، ويتصدى لها بإصدار الأحكام، ينبغي له مراعاة ُ هذه المسألة العظيمة، وأن يجعل هذه الآية الكريمة نصب عينيه ويستحضرها في كل ِّ قول ٍ أو فعل ٍ يقوم به. ومما دعاني إلى هذا الكلام أني سمعت ُ كثيراً من أصحاب الفضيلة القضاة والمشايخ يقولون: إن القضاء الشرعي يتعرض إلى هجمة ٍ وحملات ٍ مغرضة للحط ِّ من قدره وتشويه صورته. ولذلك فهم يحذرون من أي انتقاد ٍ للقضاء أو ذكر ٍ لأخطاء المحاكم والقضاة في المجالس العامة أو في وسائل الإعلام. ومع تقديري الكبير لهذا الرأي، وإيماني بأن هناك فعلاً هجمة وحملاتُ تشن ُ على الشريعة والإسلام وعلى الحكم بما أنزل الله - سبحانه - في جميع مناحي الحياة، إلا أني لا أتفق مع النتيجة التي تنهى عن انتقاد أجهزة القضاء أو أداء المحاكم، لأنه شتان بين القضاء الشرعي والشريعة الإسلامية وبين عمل البشر القائم على الاجتهاد البشري المحتمل للخطأ والصواب، ولا يدعي العصمة َ مسلم ٌ عاقل. وإذا كان أصحاب الفضيلة القضاة يؤمنون بوجود هذه الحملة المقصودة لتشويه القضاء الشرعي، فإن ذلك مما يعظم الواجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه في أعمالهم، وألا يكونوا سبباً في تأجيج هذه الحملة وإيجاد الذرائع والمبررات لها، وأن يتقوا الله أن يؤتى الإسلام من هذه الثغرة التي هم عليها. ثم أعود إلى بيان معنى الإحسان الذي يجب على القاضي المسلم التحلي به في قضائه انطلاقاً من المعنيين المشار إليهما فأورد أمثلة ً لذلك لأنه يصعب حصر ُ كل ِّ صور الإحسان في هذا المقال: أولاً: من أعظم صور الإحسان أن يحرص القاضي على الالتزام بكل واجبات وآداب القضاء الشرعي ابتداء ً بطريقة ِ نظره للخصومة وتسويته بين الخصوم في مجلسه ونظره وكلامه وما نص عليه الفقهاء – رحمهم الله – في هذا الباب من آداب جليلة ٍ عظيمة الفائدة. ثم أن يحرص على فهم الواقعة المعروضة ِ عليه وألا يستعجل في ذلك فيغلط في الفهم، ثم يجتهد في معرفة الحكم الشرعي لها بعد تكييفها التكييف الصحيح الذي يتمكن معه من إنزال الحكم الشرعي المناسب عليها. ثانياً: كما أن من صور الإحسان الواجب على القاضي، أن يلتزم بما أمر به ولي الأمر من أنظمة ٍ وتعليمات ٍ تضبط سير عملية التقاضي، وتحفظ حقوق المتقاضين، وتضمن عدالة ونزاهة القضاء. ثالثاً: أن يحرص القاضي على التزام الأخلاق الحسنة والتعامل بالمعروف مع كل ِّ من يقف بين يديه سواء ً كان من المتقاضين أو المراجعين في المعاملات الإنهائية أو حتى من المتهمين الذين يحاكمهم على ذنوب وجرائم اقترفوها، فلا يكون تعامله معهم بالتعالي والغلظة والنهر والكره والطرد ورفع صوته عليهم، بل بالرحمة والشفقة والرأفة، إلا على من ظهر له منه عناد ٌ أو ارتكاب منكر ٍ عظيم ٍ يستحق عليه التوبيخ. وقد كثرت في هذه الأيام الشكوى من سوء المعاملة التي تصدر عن بعض القضاة، وعدم احتمالهم لجهل الجاهل أو لغلط المخطئ، وهذا مما ينبغي لكل قاض ٍ أن يحاسب َ نفسه عليه، وأن يستحضر كما أشرت ُ أنه في مكانته هذه يمثل الشريعة الإسلامية، وينطق بالأحكام التي يعتقد أن الله َ سبحانه شرعها، وهذا مقام ٌ عظيم ٌ خطير ٌ يستحق ُ أن يراعى. رابعاً: من صور الإحسان أيضاً ما نص عليه بعض الفقهاء – رحمهم الله – أنه ينبغي للقاضي إذا نطق بحكمه في الخصومة أن يترفق بالمحكوم عليه، وأن يبين له وجه الحكم الذي حكم به، وسبب الحكم عليه، سواء ً برد دعواه أو بإلزامه بما ألزمه الحكم به، أو حتى لو حكم على عاص ٍ بعقوبة، فإنه يعظه موعظة ً رفيقة ويبين له أن كاره ٌ للحكم عليه لولا ما بدر منه، وأن ينصحه بالتوبة والاستقامة. فإن هذه الطريقة في إصدار الأحكام لها أثر ٌ عظيم ٌ في النفوس، وفي تطييب الخواطر، وفي إقناع الناس بحكم الشريعة وحملهم على قبول الأحكام والرضا بها، وحتى لو لم يقنع بالحكم إلا أنه مما يبعد التهمة عن القاضي، وفيها مصالح عظيمة ٌ لا تحصى. وإذا كان الله سبحانه قد كتب الإحسان على كل ِّ شيء حتى كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحة..). فإن إصدار الأحكام القضائية مما يدخل في هذا المعنى، وهذا أولى من النطق بالحكم بأسلوب ٍ غليظ، ووجه ٍ مكفهر، ورفع صوت ٍ يدعو إلى العداء والتشنج. ومن ذلك أن القاضي ينبغي له ألا يغضب من رغبة المحكوم عليه في الاعتراض على حكمه، فإنه إذا كان النظام أجاز له ذلك، فلا يليق بالقاضي أن يأنف من الاعتراض بل ينبغي أن يفرح به لأنه أبرأ لذمته، وفيه احتياط ٌ لحقوق الناس.