حماية المستهلك من الشروط التعسفية في العقود

مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

عرف التشريع الإسلامي قبل الأنظمة الحديثة مبدأ حماية المستهلك عبر تشريع أحكام تضبط ممارسات البيع والشراء والتعاملات المالية بين الناس كتحريم الغش ومتابعته في الأسواق (من غش فليس منا) وتحريم العقود التي قد تؤدي لممارسات غير عادلة (لا يبع بعضكم على بيع بعض) والعقود غير الواضحة النتائج (كبيع الثمر على الشجر قبل أن يبدو صلاحه), واعتمدت مبادئ منها إزالة الجهالة المفضية للتنازع من شروط العقد أو صفة البضاعة، كما عرفت حماية المستهلك على النطاقين العملي الرسمي والشعبي في الدولة الإسلامية بالحسبة، ووفق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي العصر الحديث ظهرت فكرة حماية المستهلك وتعددت صور هذه الحماية والجهات القائمة عليها ما بين جهات حكومية تسن من الأنظمة ما يكفل تحقيق هذه الغاية كتحديد المواصفات الواجب توافرها في المنتجات ومنع الممارسات الضارة بالمستهلك كالاحتكار، وكذلك تقوم الهيئات المدنية التي يشكلها ويقوم عليها المستهلكون أنفسهم بدور بارز في متابعة تطبيق هذه الأنظمة والاشتراطات والملاحقة والمقاضاة لكل من يخالفها، وتوعية المستهلك بحقوقه والمخاطر التي قد يتعرض لها من صور الغش التجاري. ورغم تأخر الدول العربية عموماً عن الدول المتقدمة في تطبيق هذا المنهج والتزامه إلا أن من المؤسف ومما لا يخفى أن حماية المستهلك في المملكة على وجه الخصوص لا تزال غير فاعلة ولا مؤثرة ولا تفي بالغرض المقصود منها في حماية المستهلك مما يتطلب خطوات جادة يجب المبادرة بالقيام بها لتحقيق هذه الغاية. إلا أن موضوع حديثي هنا سيقتصر على جانب من جوانب حماية المستهلك المهملة التي يقل الحديث عنها في كافة الأوساط الحكومية والأهلية ولم يتخذ بشأنها أي خطوات عملية مع أهميتها وكونها تمس حرية المستهلك وإرادته واستقلاله قبل أن تمس صحته أو ماله، وأعني بذلك (الحماية من الشروط التعسفية التي تمليها الشركات الكبرى أو الهيئات أو أي جهات تقوم على تقديم خدمات مرفقية للمستهلك, وهي معلومة طبعاً كشركات النقل الجوي والبري والبحري وشركات الاتصالات وشركات الكهرباء أو الماء أو حتى التأمين أو أي جهة تشغل أو تقدم خدمة عامة يحتاج إليها المستهلك في مرافق الصحة أو التعليم أو غيرها، حيث أصبح من المشاهد المعروف تقديم هذه الجهات خدماتها على شكل عقود تبرمها مع المستهلك عند حاجته إلى الحصول على الخدمة التي تقدمها، وتتضمن هذه العقود شروطاً تمليها هذه الجهات بإرادتها المنفردة دون أي نقاش أو مفاصلة ودون تمكين المستهلك من إبداء ملاحظاته أو تحفظاته عليها بحيث يبقى مخيراً – دون اختيار – ما بين توقيع العقد تحت وطأة حاجته إلى هذه الخدمة وما بين رفض العقد الذي يكون برفضه قد حرم نفسه من تحقيق إحدى حاجاته التي لا غنى له عنها إلا بمشقة وعنت. وبمجرد مطالعة هذه العقود يتضح منها أبشع صور الاستغلال وإملاء الإرادة المنفردة والنهم الشديد الذي تتسم به هذه الجهات القائمة على تقديم الخدمات العامة للمستهلكين ومبالغة هذه الجهات في ضمان تحصيل حقوقها من المستهلك دون أدنى حماية لحقوقه في حال تقصير هذه الشركة أو الهيئة بالوفاء بالتزاماتها العقدية حتى لو أدى هذا التقصير للإضرار بالمستهلك وخسارته, وأقرب مثال على ذلك ما توجهت إليه بعض شركات الطيران من فرض غرامة على المسافر في حال ألغى سفره؛ دون أدنى اعتبار لما يسببه تأخر رحلات الطيران من إضرار بالمسافرين من فوات مصلحة أو وقوع خسارة أو حتى مرض أو موت. ومن صور هذه الممارسات ما تفرضه شركات الاتصالات ومثلها شركات الماء والكهرباء من مطالبة المستهلك بسداد ما تفرضه عليه من رسوم للخدمة حتى لو كان معترضاً على وجود خطأ في طريقة احتساب الفاتورة، حيث يتم إلزامه بالسداد دون نقاش ثم يقال له بعد السداد لك الحق في الشكوى والاعتراض ليدخل بعد ذلك طريقاً يطول, وأغلب الظن أنه لا يصل فيه لحقه من الملاحقات والاعتراض وتكون هذه الشركات وطريقتها في احتساب مستحقاتها عبر أنظمتها وأجهزتها هي الخصم والحكم وتكون في أغلبية الأحوال منزهة عن الخطأ والسهو والنسيان, ويعود اللوم على المستهلك نفسه الذي أضاع الوقت في التدقيق والمراجعة دون حق! إنه مع التسليم في كل الشرائع والقوانين بأن الإرادة هي مناط الالتزام ومع التسليم أيضا بأن جميع عقود المرافق والخدمات التي تقدمها الشركات والهيئات العامة والخاصة كلها أصبحت تأخذ شكلاً نمطياً موحداً لا محل لإرادة المستهلك فيه، فإننا بذلك نكون أمام إشكالية كبرى تحتاج لوقفة معالجة جادة وإجراءات عملية والتفاتة من هيئات حماية المستهلك الحكومية والأهلية ومن كل جهة لها صلة بحماية الحقوق تجاه هذا النوع من الاستغلال القبيح والظلم البين للمستهلكين باستغلال حاجاتهم المتنوعة للخدمات العامة. ولا يفوتني هنا التأكيد على أن وجود الشروط التعسفية وعقود الإذعان ليس مقصوراً على الجهات الأهلية بل هو موجود حتى في بعض الجهات الحكومية في تعاملها مع الأفراد المحتاجين لخدماتها المرفقية المتنوعة، ويكفي لبيان ذلك أن أوضح حقيقة الشرط التعسفي الإذعاني الذي ذكر له شراح القانون تعاريف متعددة تدور في جملتها على أنه: كل شرط لم يخضع للتفاوض بين طرفي العقد بحيث يتولى أحدهما صياغته وإعداده مسبقاً على شكل يترتب عليه عدم تكافؤ الحقوق أو عدم توازن في الالتزامات الناشئة بين طرفي العقد. وذلك باستغلال الجهة العامة أو الخاصة واضعة العقد لما لها من مكانة اقتصادية أو دعم حكومي ما يشكل نوعاً من سوء استعمال السلطة. ومن صور التعسف والإذعان في مثل هذه العقود ما نلاحظه من حصول هذه الشركات الكبرى على عوائد مالية ٍ كبيرة لا تتناسب مطلقاً مع حجم الخدمة التي تقدمها للمستهلك وتكون هي التي تتولى منفردة تقدير أسعار خدماتها دون رقابة ولا تدخل حكومي يكفل الحماية للفرد المستهلك المجرد من كل مظاهر القوة والسلطة, وهذا النوع من التعسف أيضا يمكن وصفه بأنه من باب الإثراء على حساب الغير. وحقيقة الأمر فإن الحديث عن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من التعمق والاستقصاء والبحث للوصول إلى تصور شامل لهذه المشكلة المتفاقمة إلا أني أكتفي هنا بمجرد طرح الإشكالية وإبرازها لعل ذلك يكون بداية يستكملها المختصون والمعنيون بهذا الأمر من بعدي للوصول إلى المصلحة العامة المقصودة من ذلك. وقبل الختام أحب التأكيد هنا على أنه يجب أن يكون للقضاء كلمته ودوره الفاعل في تحقيق العدالة لهذه الشريحة المستضعفة من المستهلكين وذلك في كل حالة يتولى القضاء نظرها من هذه الحالات عبر ما هو متقرر من دور إيجابي للقاضي في الرقابة على العقود وحقه في تعديل أو إلغاء الشروط التعسفية فيها. وفي الختام أسأل الله للجميع التوفيق والهداية لما يرضيه.

 

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني