الصلح حين يكون ظلماً

مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

مع إطلالة شهر رمضان المبارك يطيب الحديث عن الصلح والتسامح والعفو بين المسلمين، فهو موسم المغفرة والعمل الصالح وسمو الأخلاق والتعالي على الأحقاد والضغائن والسعي لتطهير النفوس رغبة ً فيما عند الله - سبحانه - من عظيم الأجر. وفي مقام الخصومات القضائية يبرز الصلح من بين أنجع الوسائل لحل هذه الخصومات والفصل فيها بطريقة تساعد على حفظ أواصر المحبة والود بين المسلمين عموماً والأقارب وذوي الأرحام خصوصاً، وقد وصفه الله – تعالى - بأنه خير لما يترتب على حصوله من مصالح وآثار ٍ حسنة في الدنيا والآخرة. إلا أن مما ينبغي التنبيه عليه والتذكير به أن الصلح لا يكون خيراً إلا إذا وافق الأوضاع الشرعية وسلم من المخالفات التي تجعله في الحقيقة ِ ظلماً وإن سُمي صلحاً. لذا فإن بعض ما يحدث في المحاكم من ممارسات عرض الصلح على الخصوم تنطوي في كثير منها على ظلمٍ بينٍ وإكراهٍ لأحد طرفي الخصومة على الصلح، بحيث يبقى صاحب الحق بين أمرين أحلاهما مرٌّ، إما أن يقبل بالصلح خشية ما يلحق به من الضرر والظلم غير المشروع أو أن يتمسك بحقه في الحصول على حكم ٍ شرعيٍ قضائي فيكون بذلك على خطر أن يطول انتظاره للحكم حتى يضيع حقه، أو أن ينقلب القاضي عليه فيصير خصماً له لرفضه ما عرضه عليه من صلح ٍ غير عادل، وهذه مصيبةٌ عظيمة يبتلى بها المظلوم تفوق المظلمة الأساسية التي لجأ إلى القضاء متظلماً منها. إن مما هو مشاهد وموجود في المحاكم أن بعض القضاة - هداهم الله - يعرضون الصلح على الخصوم بطريقةٍ غير عادلة ومخالفة ٍ للأحكام التي قررها الفقهاء - رحمهم الله - الذين ذكروا أحكاماً وقيوداً للصلح حتى يكون موافقاً لما أمر الله به من العدل والإحسان. وفي هذا المقال أورد شيئاً من هذه الأحكام والملاحظات التي أريد بها تذكير نفسي وإخواني من أصحاب الفضيلة القضاة حول هذا الموضوع راجياً من الله أن يكون فيها التوفيق ولإخواني القضاة النفع والفائدة: أولاً: إن من أهم أسباب نجاح مساعي الصلح أن يستحضر القاضي عند عرضه له أن ذلك ابتغاء مرضاة الله – سبحانه - واستجابة ً لأمره - عز وجل - القائل: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)، لأن بعض القضاة قد يحملهم على عرض الصلح والإلحاح به على الخصوم رغبتهم في التخلص من عبء العمل أو التخلص من مشقة التصدي للحكم أو حتى حرص القاضي على سلامة ذمته من إصدار حكم ٍ قضائي. وهذه المقاصد، وإن كانت مقبولة، إلا أنه يجب أن يكون المقصد الأساس هو الرغبة فيما عند الله من الأجر والمثوبة والحرص على إصلاح ذات البين. وقد يكون من بواعث عرض الصلح أن بعض القضاة قد لا يتضح له الحكم الشرعي في المسألة فيحب التخلص من الحكم فيها بعرض الصلح ويكثر الإلحاح على الخصوم بقبوله ويضغط عليهم لدرجة تشبه الإكراه الأدبي، وهذا المسلك قطعاً غير جائز وليس عذراً للقاضي أن يجهل الحكم فيلقي تبعة جهله على المتقاضين الذين لجأوا إلى القضاء بحثاً عن الحكم الشرعي في المسألة. ثانياً: تتأكد مشروعية عرض الصلح حين يكون النزاع بين الأقارب وذوي الأرحام، خصوصاً بين الزوجين، وتعظم المصلحة الشرعية عند ذلك في عرض الصلح والحرص على إتمامه بينهم لما فيه من الوقاية من قطيعة الأرحام ومن اجتماع الشمل والتوفيق بين الزوجين حفاظاً على رابطة النكاح العظيمة المقدسة. وكثيراً ما يكون الاختصام بين الأقارب في المواريث فما أحسن المصالحة بينهم في ذلك تأسياً بهديه - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشرٌ، ولعل بعضكم ألحن بحجته، أو قد قال: لحجته من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقِّ أخيه شيئاً؛ فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعةً من النار، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان، وقال كل واحدٍ منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أما إذ قلتما؛ فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم لُيحلل كل واحد ٍ منكما صاحبه". ثالثاً: إن من المخالفات التي يقع فيها بعض القضاة أنه يترك الخصوم دون عرض الصلح عليهم في بداية الدعوى، حتى إذا استنفد كلُ واحدٍ منهم ما لديه من حججٍ وبينات أو كانوا في آخر مراحل الدعوى وتعقدت مسائلها واتسعت هوة الشقاق والخصومة بينهم ذهب يعرض عليهم الصلح ويُلحُ عليهم في ذلك، ولا شك أن هذا المسلك مخالفٌ للمقاصد الشرعية التي يهدف الصلح إلى تحقيقها من عدة وجوه: 1. أن أبرز مقاصد الصلح كونه وسيلة ً لحفظ المودة والمحبة بين المتخاصمين من المسلمين، وفي تأخيره إلى مراحل متقدمة من الدعوى تفويتٌ لهذه المصلحة غالباً، بحيث تكون الصدور قد أوغرت بينهم واتسعت هوة النزاع وإن تصالحوا فلا بد أن يبقى في النفوس شيءٌ من العداوة. 2. كما أن من مقاصد الصلح وقاية المتخاصمين من الوقوع في حمأة الخصومة وما يصاحبها من تلاحٍ وشقاقٍ ومماحكةٍ بينهم، وغالباً ما تمتد آثار هذا النزاع القضائي إلى خارج مجلس القضاء فتقع القطيعة والشحناء وتدوم طويلاً ما دام النزاع منظوراً لدى القضاء ويتمسك كلٌ منهما بموقفه لظنه أن الحق معه، بل أحياناً تنقسم العشيرة أو القبيلة أو المجموعة الكبيرة ممن ليسوا طرفاً في النزاع فيكونوا فريقين متخاصمين متقاطعين لأن كل فريقٍ انضم إلى أحد طرفي الخصومة وتعاطف معه، وهذه مفسدةٌ عظيمة لا يرضاها الله - عز وجل -، وقد يكون سببها غفلة القاضي عن عرض الصلح والسعي لتحقيقه بالحسنى في بداية النزاع. 3. أن من مقاصد الصلح كذلك الوقاية من وقوع المتخاصمين أو بعضهم في جريمة الكذب والزور في الأيمان والبينات، فينبغي أن يكون عرض الصلح بينهم قبل تقديم أحدهم لبينته أو حلف اليمين. 4. أن مما نص عليه الفقهاء - رحمهم الله - أنه لا يجوز للقاضي عرض الصلح بعد أن يستبين له وجه الحق في الدعوى، فإذا استبان له وجه الحق لم يكن له أن يعرض على صاحب الحق الصلح (وهذه مسألة خلافية بين الفقهاء) قال الإمام السرخسي - رحمه الله - في المبسوط: "لا ينبغي للقاضي أن يعجل بالحكم، وأنه مندوب إليه أن يرد الخصوم ليصطلحوا على شيء ويدعوهم إلى ذلك، فالفصل بطريق الصلح يكون أقرب إلى بقاء المودة والتحرز من النفرة بين المسلمين، ولكن هذا قبل أن يستبين له وجه القضاء، أما بعد استبانته فلا يفعله إلا برضا الخصمين". رابعاً: أن الصلح عقدٌ من العقود يشترط له التراضي والقبول فينبغي للقاضي عدم إكراه أحد الطرفين على قبول الصلح بطريقة ٍ تشعره أنه إن لم يقبل عرض الصلح، فقد ينقلب القاضي ضده ويكون خصماً له فهذا منكرٌ ومحظورٌ شرعاً يجب أن يتوقاه القاضي. خامساً: أن عرض الصلح بين الخصوم ينبغي ألا يكون عائقاً أمام نظر الدعوى وسرعة إيصال الحقوق إلى أصحابها ورفع المظالم عن المظلومين، فإن من المخالفات التي يقع فيها بعض القضاة، إطالة أمد القضية بشكلٍ يخالف مقصود الشارع الحكيم من القضاء ويتنافى مع الغاية من نصب القضاة لرفع الظلم والفصل في الخصومات وإيصال الحقوق لأصحابها، بحيث يتسمر القاضي في الإلحاح بعرض الصلح ويوقف نظر الدعوى، ويلحق بذلك الأذى بالمتقاضين خاصةً بالمظلوم منهم، وهذا قد يكون وسيلة لإكراه بعضهم بقبول الصلح الذي يراه ظالماً في حقه وغير منصفٍ له هرباً من تعطل القضية أو خشية بقاء الضرر الواقع عليه فترة ً أطول، وهذا الصلح مخالفٌ لما أمر الله به قطعاً، قال السرخسي - رحمه الله -: "ولا يفعله - أي عرض الصلح - إلا مرةً أو مرتين لما في الإطالة من الإضرار بمن ثبت له الحق في تأخير حقه، ولأن ذلك يجر إلى تهمة الميل إلى أحد الخصمين". سادساً: أن القاضي عند عرضه للصلح ينبغي له عدم الإلحاح بطريقة ٍ يفهم منها المظلوم أن القاضي قد ينقلب ضده في حال لم يقبل بالصلح وهذا للأسف موجودٌ كثيراً فيجب الحذر منه، بل يجب أن يتيقن المظلوم الذي لجأ للقضاء أنه في مكان العدل وفي ساحة الإنصاف وأن حقه مكفولٌ، وأنه في مأمن من ظلم خصمه له فضلاً عن ظلم القاضي. سابعاً: أنه ينبغي للقاضي أن يتوقى من عرضِ صُلحٍ جائرٍ بين الخصوم، فإن من الظلم البين أن تعرض الصلح بين طرفين أحدهما قويٌ ظالمٌ غاصبٌ، والآخر ضعيفٌ مظلومٌ ومغصوب الحق، فإن هذا الصلح ليس له من اسمه نصيب، بل هو جورٌ وظلمٌ لا يجوز للقاضي عرضه ولا إقراره ولا توثيقه في حال عُرض عليه. ثامناً: يجب التأكيد على أن من أحكام الصلح ألا يكون المصلح - وهو القاضي هنا - على علمٍ بحق أحد المتخاصمين على الآخر، فإن كان عالماً بأحقية أحدهما على الآخر فلا يجوز له عرض الصلح بينهما لما في ذلك من تمكين المبطل في الدعوى من حق غيره وإعانةٍ للظالم على ظلمه. تاسعاً: ينبغي للقاضي في عرضه للصلح أن يقوم بوعظ المتخاصمين وتذكيرهما بالله - عز وجل - وتبيان الحكم الشرعي لهما بأن الصلح لا يجيز للمسلم أن يأكل مال أخيه بغير حق، وأن الصلح لا يكون جائزاً شرعاً ومبرئاً لذمة المتصالحين إلا بشرط أن يكون كلُ واحدٍ منهما متيقنا بعدالة موقفه واستحقاقه لما يدعيه، أما إن كان المدعي يعلم بكذب دعواه أو كان المدعى عليه يعلم بصحة دعوى المدعي فإن الصلح لا يحل لأيٍ منهما ما حصل عليه بهذا الصلح لأنه صلحٌ باطلٌ محرمٌ في الباطن، وإن كان صحيحاً في الظاهر وصدر به حكم القاضي. والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني