سرّي للغاية.. أشغلتني في صلاتي

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

إن إحاطة المراجعين بكل شفافية ووضوح بما يجري على معاملاتهم، واطلاعهم على سير الإجراءات، من أبسط حقوق المتعاملين مع الإدارات الحكومية، وهو أمر يقتضيه مبدأ الشفافية والوضوح، ويقضي على الكثير من السلبيات، ويعطي المواطن فرصة للتعاون مع الإدارة على سرعة إنجاز معاملته

قبل عدة سنوات كنت خطيباً في أحد مساجد الرياض، وحين كنت أصلي بالناس الجمعة، وأثناء ركوعي في الصلاة لفت انتباهي ورقة ملقاة في المحراب على سجادة الإمام، عبارة عن تعميم من وزارة الشؤون الإسلامية، مكتوب أعلاها بخط عريض (سري للغاية)!! وحقيقة فقد أحدث ذلك لدي شيئاً من التشويش في الصلاة، إذ تعجبت من هذا الخطاب الرسمي الذي يؤكد أنه له صفة السرية الشديدة، بينما هو ملقى هكذا في المحراب لا أدري من أتى به، ولا من وضعه بهذه الطريقة، ودون حتى أن يكون محفوظاً داخل ظرف يبقي له شيئاً من الخصوصية.

وبعد انتهاء الصلاة أخذت الورقة، فتبين أنها تتضمن توجيهاً من الوزارة للخطيب بأن يخصص موضوع خطبة معينة للحديث عن إحدى القضايا الاجتماعية من منظور شرعي، وذلك بهدف توعية المصلين. وهذا يعني أن من ألصق بهذا التعميم عبارة (سري للغاية) لم يكن موفقاً في هذا الاجتهاد، وأن الأمر لا صفة له من السرية أصلاً.

هذا الموقف يقودني للحديث عن مظهر من مظاهر البيروقراطية التي تتعامل بها الكثير من الإدارات الحكومية، في زمن لم تعد مثل هذه المظاهر صالحة للاستمرار فيها. وهو التشديد غير المبرر، بل والساذج في كثير من الأحيان، في إخفاء معلومات المعاملة عن المراجع صاحب الشأن، وعدم اطلاعه على ما يحدث في معاملته من تطورات داخل الإدارة أو خارجها، والتكتم الشديد على مضمون الخطابات التي تدور بشأن قضيته، في قضايا لا صلة لها بالمواضيع الأمنية، ولا يترتب على إفشائها أي ضرر خاص أو عام.

إن مما ينبغي على الإدارات الحكومية إعادة النظر فيه، أن إخفاء تفاصيل المعاملة ومضامين المكاتبات الدائرة بشأنها عن المراجع، ليس إلا إهداراً لحقه في العلم بموقف الإدارة من طلبه، والإحاطة بما يتم من إجراءات عليه، خاصة وأن بعض الإجراءات التي تتم في سرية ودون علم صاحب الشأن قد لا تكون متوافقة مع المصلحة أو تنطوي على أخطاء تُرتب أضراراً مستقبلية على صاحب الشأن، وبعضها أيضاً قد يكون غير ذي جدوى ومضيعة للوقت، لأن لدى صاحب الشأن من المعلومات عن موضوعه ما يمكن أن يفيد في إيضاح الصورة كاملة للجهة المختصة، لكنه لم يُسأل عن تلك المعلومات، ولم يكن يعلم بالحاجة إليها.

إن إحاطة المراجعين بكل شفافية ووضوح بما يجري على معاملاتهم، واطلاعهم على سير الإجراءات، من أبسط حقوق المتعاملين مع الإدارات الحكومية، وهو أمر يقتضيه مبدأ الشفافية والوضوح، ويقضي على الكثير من السلبيات، ويعطي المواطن فرصة للتعاون مع الإدارة على سرعة إنجاز معاملته التي يفترض بها أن تكون وفق النظام، حتى ولو كانت النتيجة الأخيرة لها تعذر إعطائه ما طلبه لعدم إمكان ذلك نظاماً. كما أن هذا الوضوح والشفافية وتوفير المعلومة للمراجع يسهم كثيراً في القضاء على بعض صور الفساد التي تجد في التعاملات السرية بيئة خصبة لانتشارها وتأثيرها.

وأعتقد أنه يمكن لوزارة الخدمة المدنية وهيئة مكافحة الفساد أن يكون لهما جهود توعوية في نشر هذه الثقافة، والتأكيد على الإدارات بالتعامل مع المواطنين بوضوح وشفافية، ولعل ذلك على غرار الحملة الموفقة التي تقودها وزارة التجارة على صعيد توعية المستهلك بحقوقه، ومن ذلك حملة (لا تسأل بكم) التي توجب على المحلات التجارية وضع أسعار المنتجات وإبرازها على المنتج، حتى لا يكون هناك مجال للغش والتلاعب في الأسعار.

إن ثقافة التعامل مع المراجع لجهات الإدارة بأسلوب التجهيل والتهميش، وجعله في آخر قائمة الاهتمام، بينما الصحيح أنه هو المحور والمرتكز، وأن الإدارة ما وجدت أصلاً إلا لخدمته وتنظيم حاجاته، إن تلك الثقافة يجب أن تتغير وأن يكون هناك حملة جادة لتغييرها.

ولعل أسلوب السرية التي أصبحت مبالغاً فيها في كثير من الإدارات من صور هذا التهميش واللامبالاة، وعدم وجود حقوق واضحة ومحترمة لذلك المراجع للجهات الإدارية، بحيث يكون من يتجاهل تلك الحقوق عرضة للمساءلة والتأديب.

كما أن مما ينبغي توضيحه، أن كثيراً من تلك التصرفات في إضفاء الصفة السرية في غير محلها الصحيح، إنما يحدث من موظفين بسطاء ليس لديهم أدنى درجة من الثقافة الإدارية، ولم يخضعوا يوماً لتدريب إداري يرفع مستوى أدائهم، وأنه لو صادف تعاملهم مع مراجع يتصف بالإلحاح وقام هذا المراجع بالدخول على المسؤول ومناقشته لأمكنه بكل بساطة الاطلاع على كل ما يريد من معلومات معاملته، ولتبين أن الموظف البسيط إنما امتنع عن ذلك وادعى السرية دون أي مبرر ولمجرد الاعتياد على ذلك.

ومن جانب آخر مهم، فإن معرفة مراجع الجهة الحكومية بكل تفاصيل الإجراءات التي تمت على معاملته، يشكل أمراً غاية في الأهمية حين يضطر ذلك المراجع إلى مقاضاة الإدارة، فإن ما جرى من وقائع داخل جهة الإدارة، وما تم من إجراءات، يشكل جزءاً مهماً من الأسباب القانونية وأدلة الإثبات التي تؤثر على موقف الفرد في الدعوى الإدارية. وهذا يوجب أن يحظى هذا الحق من حقوق الأفراد بالحماية الكافية، وأن تكون الإدارة واضحة وشفافة في تعاملاتها، ما دامت ملتزمة بالتطبيق الصحيح للنظام. وكما يقول المثل الدارج (لا تسرق ولا تخاف(.

والحمد لله أولاً وآخراً هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني