لمصلحة من هذه الانقسامات؟
كثيراً ما يؤلمني ويؤسفني ما أراه يتجدد في مجتمعنا السعودي من صراعات وانقسامات حول قضايا فكرية، يساهم في تأجيجها وإشعالها ما ابتلينا به من وسائل التواصل الحديثة التي يُفترضُ بنا أن نوجه استخدامها لما ينفعنا، فإذا بنا – كما هي عادتنا – نأخذ أسوأ ما فيها، ونحولها إلى نقمة وأداة شر.
فقد أسهمت تلك الوسائل الحديثة إلى إغراء كل من هبّ ودبّ للدخول في أتون هذه الصراعات، وتناولها والخوض فيها دون أي قيود شرعية ولا أخلاقية، فلم يعد أحد يحقر نفسه أن يصول ويجول في كل فتنة، ويطلق لسانه طولاً وعرضاً، شرقاً وغرباً في كل قضية، يبدي فيها رأياً لا يهمه أن يكون غاية في الجهل، ويقوم فيها بدور لا يعنيه مدى انحطاطه وإسفافه.
فما بين المعرفات الوهمية في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أسماء الآلاف من النكرات الذين ليس لهم في بيوتهم ولا حواريهم ولا وسط أقاربهم أي قيمة علمية، أو مرجعية معرفية، أصبح هؤلاء كلهم مُنظّرين، يكثّرون سواد الفتنة، ويؤججون نار الفرقة، أبعد ما يكونون عن الصلاح، وأجهل الناس بوسائل الإصلاح.
فأصبحت هذه القاعدة العريضة من الغوغاء، بمثابة الحقل الذي لم يبق فيه سوى هشيم زرع يابس بعد الحصاد، يكفي إلقاء عود ثقاب مشتعل فيه، ليشتعل كاملاً بالنار التي قد تأتي على الأخضر واليابس.
وفي ظل هذا الواقع المؤلم، أصبح المجتمع بكل مكوناته تقريباً، جاهزاً للاستجابة لأي حركة إثارة أو استفزاز، ليتحول إلى معركة من السباب والشتم، والتخوين والتفسيق.
تكفي كلمة عابرة من شخص قد لا يكون له في ميزان الرأي أو العلم أي اعتبار، لتؤججهم وتشعل حربهم، وتشطر وحدتهم إلى شيع وأحزاب، وتيارات ومذاهب، يفرقها أكثر مما يجمعها، ويباعدها أكثر مما يقربها.
فأصبحت المعارك ونار الفتن تؤجج تارة بدعوى الانتصار للدين، وتارة أخرى بزعم إنكار منكر، وثالثة بحجة كشف مؤامرة، وهكذا أصبحت الفتن متواصلة، والمعارك مستمرة، وأصبح هذا واقعاً مريراً، والذي لا يرضاه الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه
وسلم، ولا يتوافق مع ما أمرت به شريعتنا من التثبت في النقل، والرفق في القول، والوحدة في الصف، والاجتماع على كلمة
سواء، هي كلمة التوحيد.
وإذا كان هذا الواقع المؤلم وغير المقبول شيئاً منكراً، وظاهرة خطيرة ، وضرراً يجب أن تتضافر الجهود لمحاربته والقضاء عليه، إلا أن مما يحبطني كثيراً أن نسبة كبيرة ممن يساهمون في تأجيج هذه النار، هم من المحسوبين على العلم أو الدعوة أو
الثقافة، وممن آتاهم الله موقعاً من التأثير، وجعل لهم أتباعاً وجماهير تتأثر بهم.
والأسوأ من ذلك أيضاً أن بعض الفتن التي تشتعل نارها في صفوف المجتمع، هي عبارة عن صراع من الآراء والمواقف الفكرية المرتبطة بالدين، دون أن يكون هناك أي تدخل من الجهات الشرعية مثل هيئة كبار العلماء، أو اللجنة الدائمة للإفتاء، للتصدي لها وحسم الجدل حولها، وبيان الموقف الشرعي الصحيح منها، مما يسهم في استمرار الجدل، وتطاول أدعياء العلم أو صغار طلابه، ويدع الفرصة سانحة لبعضهم لاقتناص مثل هذه المواقف وتوظيفها في اتخاذ موقع اجتماعي له، وتكوين قاعدة جماهيرية يجتذبها باستغلال مشاعر الحماس، عند الجماهير، وعواطفهم الدينية تجاه مثل هذه القضايا، ومع مرور الأيام أصبح بعض الأقزام يتنامى، وأثر كبار العلماء يتضاءل، وهنا نقع في خطر عظيم بسبب ترك الساحة لهم لتفريخ أفكارهم التي لا تعبأ بالتزام منهج أهل السنة والجماعة في التعاطي مع قضايا الفتن، ولا بالموقف الشرعي السلفي الصحيح للتعامل مع ولاة الأمر، والردّ إلى العلماء الربانيين الراسخين في أمور الناس العامة.
وبنظرة سريعة على بعض الحسابات في (تويتر) مثلاً تجد طالب أو طويلب علم من المحسوبين على الدولة، المنتسبين إلى جامعاتها أو جهاتها الرعية، لا يتردد أن يوجه الرسائل إلى الجماعات والأحزاب والطوائف خارج البلاد، والخوض معهم في قضاياهم، والمشاركة في تنظير فكرهم وتوجيه أفعالهم، وتزكية بعضهم ونصرته على حساب بعض، مما لا يجوز أن يتصدى له إلا كبار علماء الأمة، ولا يليق حتى بعلماء هذه البلاد الدخول فيه منفردين ما دام مرتبطاً بجهات وتنظيمات خارج حدود بلدهم، لأن الحق في ذلك إذاً أصبح لمجموع علماء الأمة لا إلى علماء بلد واحد، فضلاً عن طويلب علم فيها يميل للخفة والطيش، وتعوزه الحكمة وتقدير العواقب.
يجب وجوباً لا يجوز تأخيره، أن نلتفت لهذا الخطر، وأن نتعامل بحزم مع هذه الظاهرة المشينة، وأن نساعد المجتمع على الحفاظ على تماسكه وسكينته، وأن نزيد حضور كبار العلماء وقربهم من الناس، لكي لا تتفاقم المسألة -.
والحمد لله أولاً وآخراً، هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.