اللجنة المصرفية: وما زال الجدال قائماً (1 من 2)
لا يزال الجدل قائما حول طبيعة قرارات لجنة تسوية المنازعات المصرفية، وهذا الجدل الطويل مع امتداده في الزمان واتساع نطاقه بين المختصين من القضاة والمحامين والمستشارين والمشتغلين بالفكر القانوني وغيرهم من ذوي العلاقة إلا أن هذا الجدل يبدو أنه يفتقر إلى عناصر الحسم، وأنه ليس من السهولة على مجتهد أو باحث أن يدعي امتلاكه القول الفصل في هذه المسألة التي ستبقى هكذا مشرعة الأبواب محتملة غير محسومة، إذ لا أظنه يكفي في حسمها بحث علمي ينتهي إلى اجتهاد وتوصيات ولا حتى حكم قضائي وإن كان قطعياً. وحقيقة الأمر أني ترددت كثيراً في كتابة هذه السطور عن الموضوع وأنا أتابع تفاصيل الجدل الذي بلغ ذروته أخيراً على صفحات الصحف وأخذ حيزاً من اهتمامها ومتابعتها وأدلى فيه كثيرُ من المختصين برأيه في آراء تضمنت كثيرا من البحث والفائدة والمسائل الجديرة بالعناية، بحيث لا أزعم أني هنا آتٍ بجديد حول هذه المسألة أو أعد القارئ الكريم بأن انتهي معه في مقالي هذا إلى قول فصلٍ فيها فأكون كما قال الأول: آتٍ بما لم تستطعه الأوائل. ومع ذلك فأرجو ألا يخلو مقالي هذا عن فائدة بحيث يسهم في إثراء البحث حول هذه المسألة ويحفز على سرعة إيجاد حل حاسم لها وقطع الجدل القائم والممتد فيها. ذلك أنه لم يعد مقبولاً أبداً أن يظل اختصاص قانوني واسع ومهم وحساس وهو (النزاع المصرفي) يترنح هكذا دون أساس شرعي وقانوني واضح وجلي، وأن يتخلف هذا المجال الحيوي المهم عن الركب الذي سار فيه سائر مجالات القضاء والقانون التي أصبحت محل عناية واهتمام ودعم غير مسبوق من لدن خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – الذي حمل على عاتقه هم النهوض بالشأن القضائي والقانوني في المملكة وحرص – رعاه الله – على أن تؤدي أجهزة القضاء دورها المنشود في ترسية قواعد العدل، وأن تكون الحقوق مصانة ومكفولة، ومن أولى وسائل تحقيق هذه الغاية بل أول خطوة في الطريق الشاق إليها تحديد الاختصاصات وضبط الإجراءات بحيث لا تبقى أرضاً هشة رخوة، وينتظر أن يقوم عليها صرح شامخ ثابت الأركان واضح المعالم. ولا أود الاسترسال كثيراً مع الأفكار فأطيل على القارئ لكني وجدت ذلك مهماً لبيان مدى الحاجة إلى ضبط الاختصاصات القضائية واتحاد الجهود المبذولة في النهوض بمرفق القضاء، التي قامت على عدة أسس لا يسوغ تجاهلها والإعراض عنها في مجال واسع عريض من مجالات القضاء والقانون الذي يمس أهم مجالات النهضة الاقتصادية المنشودة ويلامس حاجة من أكثر حاجات الناس إلحاحاً على اختلاف طبقاتهم وهي (المجال المصرفي)، وأنه من المعيب وغير المقبول أبداً أن يبقى الحكم الحاسم على طبيعة قرارات لجنة تسوية المنازعات المصرفية ومدى حُجيتها وإلزاميتها أن يبقى الحكم على ذلك غير محدد ولا واضح لدى المختصين في القضاء والقانون والمشتغلين بهذا المجال في الوقت الذي يفترض وضوح الاختصاصات والعلم بها لدى عامة الناس. ولست هنا ألوم هؤلاء المختصين في اختلافهم حول هذه المسألة وبقاء هذا الخلاف دون قول فصل مدة طويلة، ذلك أن اختلافهم وتباين آرائهم حولها مرجعه النظام الذي قامت بموجبه هذه اللجنة الذي كان أرضاً خصبة لقيام واحتدام النزاع حول تفسير نصوصه وفهم غاياته. ولأن هذا النظام لا يزال هو المستند الوحيد والمرجع الحصري لقيام هذه اللجنة وتحديد اختصاصها وحدود صلاحيتها على ما فيه من تعارض واضطراب فإن الجدل سيظل قائماً ما لم يتم حسمه بحسم سببه. ومن هذا المنطلق أشرت أول حديثي إلى أن حسم الجدل حول طبيعة قرارات هذه اللجنة لا يتم برأي باحث ولا بحكم قضائي مطلقاً. وذلك يوضح – في نظري – خطأ الاتجاه الصحافي الذي سار قبل مدة وراء صدور حكم قضائي من إحدى الدوائر التجارية في ديوان المظالم ورأى في هذا الحكم سنداً شرعياً وقانونياً لحسم هذه المسألة بحيث عبرت بعض الصحف عن ذلك بقول: "ديوان المظالم يحسم الجدل حول نظامية اللجنة المصرفية" وفي تعبير صحافي آخر "ديوان المظالم يسقط اللجنة المصرفية"، ودون الحاجة للرد العميق القانوني على خطأ هذا التعبير يكفي القول بكل بساطة إن ديوان المظالم لم يكن هو المصدر القانوني لقيام هذه اللجنة ومنحها اختصاصاتها ليكون هو المرجع في إسقاطها. وإن الأمر لأعمق من ذلك وأبعد ولا أجدني محتاجاً في هذا السبيل إلى التذكير بنشأة هذه (اللجنة المصرفية) والمراحل التي مرت بها سوى أنها قامت بموجب الأمر السامي رقم 729/8 في 10/7/1407هـ وقد تضمن هذا الأمر سبع مواد حددت اختصاص هذه اللجنة وطريقة عملها وصلاحيتها. إلا أن هذا التحديد حمل عديدا من الثغرات القانونية التي توقع في الالتباس حيال فهم طبيعة هذه اللجنة ومكانتها بين أجهزة القضاء أو اللجان القضائية، ومن ذلك أن مواد هذا الأمر السامي أوردت عبارات وأوصافاً غير مستعملة في لجنة أخرى مماثلة وتحمل مدلولاتها شيئاً من التعارض، كما أنها سلبت هذه اللجنة أو لم تمنحها أصلاً عدة أسس مهمة لا يمكن قيام وصف (لجنة قضائية – أو حتى شبه قضائية) على هذه اللجنة دون توافر هذه الأسس التي سأشير إليها لاحقاً. وبناءً على ذلك نشأ الجدل وقام النزاع بين المختصين حول طبيعة عمل اللجنة المصرفية فأخذ كل فريق منهم بطرف وانتصر كل منهم لرأيه بطريقته الخاصة وحسب رؤيته وفهمه لهذا الأمر السامي ومواده. وعند النظر إلى رأي كل فريق وما تمسك به من حجج وأسانيد نجد أنه ليس من السهولة القطع بصواب أحدهما وخطأ الآخر وفي ظل هذا النزاع صدرت أحكام قضائية متعارضة وتوجيهات رسمية مضطربة وبالطبع آراء علمية واجتهادات متناقضة وبقي القول الفصل هو الغائب الوحيد عن ساحة هذا الجدل. ولعل الصياغة الواضحة الاضطراب لهذا القرار كانت محكومة بما كان سائداً حينها من آلية لإصدار الأنظمة والتعليمات، وهي المشكلة التي تكررت كثيراً في بعض الأنظمة السابقة وأحدثت إشكالات عديدة في التطبيق العملي بسبب رداءة الصياغة أو لعل اضطراب وتعارض فقرات هذا القرار وما تضمنه من أوضاع قانونية غير مسبوقة كان محكوما باعتبارات معينة كان من الصعب تجاوزها بطريقة واضحة وأسلوب قاطع. وليس أقل هذه الاعتبارات مسألة موقف القضاء الشرعي في المحاكم من الحكم بالفوائد البنكية وغيرها من المسائل الشائكة فكان لا بد من إيجاد آلية مقبولة لضمان استقرار العمل المصرفي لكن لم تأت هذه الآلية صريحة وجازمة وواضحة المعالم كما ينبغي لما أحاط بها من الحرج فخرجت هكذا على استحياء، ثم بدأ العمل بهذه الآلية والذي كان هادئاً مقبولاً أول الأمر إلا أنه أحدث لاحقاً البلبلة والجدل، وأخشى أن يكون بقاء هذا المجال المهم والحيوي – المصرفي – محلاً لجدل غير محسوم ومحكوماً بآلية قانونية لم تعد صالحة للعمل بها أن يكون ذلك جزءاً من خصوصية مجتمعنا السعودي التي أوقعتنا في الحرج أمام سائر المجتمعات. وإذ ظهر لك أيها القارئ الكريم أن هذا الجدل لم يزل قائماً وأنه ما من سبيل قانوني سليم لحسمه سوى بآلية مماثلة للآلية التي أنشأت بها اللجنة المصرفية ابتداء أو بنفس الآلية التي صدر بها نظام القضاء ونظام ديوان المظالم الجديدين فإن كنت توافقني الرأي فانتظر مني بإذن الله بقية لهذا الموضوع أستعرض فيها أبرز ملامح الخلاف حول طبيعة قرارات اللجنة المصرفية وأهم الإشكالات التي يثيرها أو يؤدي إليها هذا الخلاف، وأرجو أن يكون ذلك قريبا بعون ربي وتوفيقه ولك مني صادق الحب وصالح الدعاء وإلى الملتقى.