الحياة في سبيل الله.. ما لا يطيقه التكفيريون
في مقولة معبّرة لجلال الدين الرومي يقول: " تعلمتُ أن كلّ نفس ذائقة الموت؛ إلا أن الحياة لا تذوقها إلا بعض الأنفس "وكثيراً ما أتأملُ حال هؤلاء الذين اختاروا طريق التكفير والتفجير والإفساد في الأرض، الذين أسسوا إجرامهم وفسادهم على قاعدة ٍصلبة من كراهية الحياة ومشاعر السخط والبغضاء للبشر، وتوسعت لديهم دائرة الكراهية والبغضاء حتى أبغضوا أوطانهم، وأقاربهم، وأناسهم، وأبغضوا كل مباهج الحياة ومنافعها، بل حتى أبغضوا أنفسهم وأهليهم!!
إنهم قوم لم يطيقوا العيش في الحياة والصبر على ابتلاءاتها، ولم يفهموا حقيقتها التي أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم أن يفهموها ويتعاملوا معها.
أسهل خيار يلجأون إليه عند شعورهم بالهزيمة أمام المغريات والعوائق والصعوبات، أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة، ويسعوا إلى الموت بعد أن يحرصوا كل الحرص على أن يذيقوه لكل نفس آمنة مطمئنة معصومة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التحقق والتحري عن حقيقة ما قتلوا غيرهم لأجله، أو قتلوا أنفسهم في سبيله، أهو حق أم ضلال.
مجموعة كبيرة من المضطربين نفسياً، المنفصلين عن حبّ الناس، والألفة مع البشر، الذين يشعرون بوحشة في قلوبهم، وضيق في نفوسهم، فظنّوا أن سلوك طريق الكراهية والموت هو المخلّص لهم من كل هذا.
إن دين الإسلام بعظمته وسمو معانيه، يدعو إلى الإقبال على الحياة واغتنامها بكل أعمال الحبّ والخير والسلام، ونفع البشر، وبذل صنائع المعروف، والتخلص من الأحقاد وتطهير القلوب والمشاعر، والدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة
الحسنة، وبالقدوة الصالحة، وبالحرص على بناء أجيال تبني ولا تهدم، تُبشّر ولا تُنفّر، ترحم ولا تقسو.
كم هي الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، التي تدعو إلى إعمار الحياة اليومية، وملء نشاط الإنسان بكل ما هو نافع ومفيد؟ وهل يخفى على من لديه أدنى فهم لشريعة الإسلام أن الإنسان المسلم كلما كان أكثر نفعاً للناس كان أقرب لحبّ ورحمة ربّ الناس؟ وأنه بقدر ما فيه من أذى لهم، وإلحاق ضرر بحياتهم أو أعراضهم أو أموالهم يكون عند الله مقامه مقام سوء؟
دين الإسلام يؤسس لقيمة الحياة، ويُؤكد أنها من أعظم نعم الله على عباده، وأن الجهاد الحقيقي العظيم يكون في الإقبال عليها واغتنامها في نفع النفس والآخرين، لا في رفض هذه النعمة والتخلص منها لأدنى عوائق تصيب المسلم.
تعالوا نتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية.." وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به .. "وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.."وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: "إنكم سترون بعدي أثرة وفتناً وأموراً تنكرونها فاصبروا حتى تلقوني على الحوض .. " ومعنى أموراً تنكرونها: أي من أمور الدين.
ووالله إن المتتبع لعامة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليجدها كلها تدعو إلى الحياة في سبيل الله وأن القليل منها فقط هو الذي يدعو إلى السعي للموت في سبيل الله لأن الجهاد في سبيل الله ليس إلا استثناء والقاعدة هي الحياة في سبيل الله لا الموت، فكيف بالموت في سبل الضلال والتيه والتكفير والإفساد في الأرض التي يزعم أصحابها أنهم في سبيل الله ؟!!
إن أقواماً عجزوا عن فهم حقيقة الحياة في الإسلام، وعجزوا عن اختيار طريق الحياة في سبيل الله لأن نفوسهم المريضة أضعف من احتمال ثقل الحياة في سبيل الله، فآثروا قتل النفوس البريئة على نفعها، وقطع الرؤوس على هدايتها، إنهم أعجز وأضعف من أن تنتظر منهم البشرية أن يقدموا لها حياة فاضلة، أو يحكموا أرضاً يعمرونها العمارة التي يريدها الله عز وجل.
إن الجهاد الحقيقي حين يقوم الإنسان بما أوجبه الله عليه تجاه نفسه وأهل بيته ووطنه والناس من حوله، فيسعى لعبادة الله على بصيرة، ويربي جيلاً يعبد الله ويدين دين الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكرس حياته لنفع الخلق في أمور دينهم ودنياهم.
هذا هو ديننا الحق، الذي يعظّم قيمة الحياة، ويدعو إلى العمل فيها واغتنامها لنيل رضا الله عز وجل والفوز بجنته.
إنه دين الرسول الأعظم الذي يقول: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل "والفسيلة هي النخلة الصغيرة. فسبحان الله أي مقدار هائل من الأمل، وحُسن العمل، وعمارة الأرض، يأمر به ديننا العظيم حتى في لحظات قيام الساعة!! فهل يعي ذلك الجبناء الخوّارون الذين قرروا الانسحاب السهل من الحياة وسلوك طريق القتل والموت والإفساد في الأرض؟! أبداً لا يمكن لأمثالهم أن يفقهوا هذه المعاني السامية، ولكن نحن يجب أن نكرّسها في نفوس أبنائنا وأجيالنا القادمة، ليعرفوا قدر الحياة من خلال حكم الإسلام العظيم.