رسائل يجب استيعابها في جرائم خلية التجسس

خلية التجسس
مقال أسبوعي كل يوم سبت في جريدة الرياض

ثقتنا في استقلال وعدالة قضائنا الشرعي الشامخ، وعقيدتنا الراسخة بشمول وكفاية شريعتنا الإسلامية الغراء التي نحتكم إليها، كل ذلك لا حدود له، ولا مساومة عليه. ومهما حاول أعداء ديننا ووطننا زعزعة ذلك، فإنما يحاولون عبثاً ويسعون على غير هدى.

حملت وقائع جريمة التجسس مؤخراً الكثير من مظاهر وصور هذا الارتباط الوثيق بين الدولة المعادية للسلام (إيران) وبين ما يحدث من أعمال إرهابية في شرق المملكة على يد المنخرطين في المشروع الصفوي الطائفي الإيراني، إما علماً وتعمداً، وإما سذاجة بلغت منتهاها..

ولئن كانت الأحداث الجسام قد تكون معياراً لمدى صلابة ومتانة ورسوخ هذه الثوابت؛ إلا أننا في المملكة لم نعد بحاجة إلى مزيد أدلة أو شواهد لتزيد قناعتنا في قضائنا أو إيماننا بشريعة ربنا، فالشريعة مصدر القضاء، وهما لدينا صنوان لا يفترقان.

ولا يعني ذلك عدم ورود الخطأ في بعض الاجتهادات القضائية التي لا يمكن أن تخلو من الخطأ البشري في الاجتهاد؛ إلا أن قواعد الشريعة وضمانات القضاء الشرعي تحيط ذلك بما يكفي من الضمانات لاستدراك الخطأ، وتصويب الخلل.

ومؤخراً طالعتنا وسائل الإعلام بأخبار صدور الأحكام القضائية بشأن قضية خلية التجسس التي تورط فيها خونة الدين والوطن بالخيانة العظمى ونكث العهد وخدمة مصالح أعداء الدين والوطن، بعد أكثر من مئة وستين جلسة قضائية، واشتراك مئة محام كإحدى الضمانات القضائية التي أحاطت هذه المحاكمة تأكيداً لعدالتها، وقطعاً لكل وسيلة تشكيك في ذلك.

ولست هنا في معرض التعليق على الأحكام من الناحية القضائية أو الشرعية والقانونية؛ فالدعاوى ما تزال قيد النظر القضائي، وهي في أيد أمينة تحت رقابة خيرة قضاة المملكة الشرعيين خبرة وأمانة؛ إلا أن ما تضمنته الأحكام الابتدائية الصادرة بحق هؤلاء الخونة، من وقائع خطيرة، حملت دلالات لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام دون إبرازها وتسليط الضوء عليها، واستيعاب مدلولاتها الخطيرة التي إن لم يتم استيعابها بوعي وإدراك، سنبقى معرّضين للمزيد من المخاطر والتهديدات الخارجية والداخلية، ويمكن – لا قدّر الله – أن نؤتى على حين غرّة، من أماكن مأمننا فنكون كما قلت العرب: "من مأمنه يؤتى الحذِر". وهذه الرسائل الخطيرة والدلالات الظاهرة، ليست موجهة إلى جهة بخصوصها، وليس المسؤول عن رصدها واستيعابها والتعامل معها ولاة الأمر فقط، أو المرجعية العلمية الشرعية من العلماء، أو رجال الأمن؛ إنما هي موجهة لنا جميعاً. لكل مواطن سعودي أياً كان انتماؤه المذهبي أو طائفته، وأياً كان موقعه الاجتماعي، أو طبيعة المركز الوظيفي الذي يشغله.

لذا فإن استعراض وكشف وتعرية هذه الرسائل بوضوح، يعدّ من أوجب الواجبات، وبأعلى صوت وأنصح عبارة. وهذا ما سأحاوله قدر استطاعتي في هذا المقال، معتذراً عن الإطالة لأن الموقف يستدعي، رغم أني مهما أطلت لن أوفيه حقه.

فإلى هذه الرسائل:

أولاً: نجاح وتفوق رجال أمننا البواسل، وبراعتهم المعتمدة أولاً وأخيراً على توفيق الله عز وجل، أدى لكشف خيوط هذه الجرائم الخطيرة الدنيئة؛ فلهم منا الدعاء بتوفيق الله وتأييده وحفظه وعنايته بهم؛ إلا أن حجم المؤامرة، وتعقيدها وتشعبها وتشابك خيوطها، يوجب علينا نحن المواطنين جميعاً أن نبدأ من اليوم أخذ مواقعنا في الحماية لوطننا، كلٌ من جانبه وبحسب استطاعته، ومن الموقع الذي يشغله اجتماعياً أو وظيفياً. فهذه المؤامرات التي تم اكتشافها كان بالإمكان أن تحقق بعض نتائجها الوخيمة التي خطط لها العدو، فندفع جميعنا الثمن، سنة وشيعة، كباراً وصغارا.. وأول خطوة جادة يجب علينا اتخاذها للبدء بممارسة دورنا كمواطنين في المساهمة في حفظ أمن الوطن، أن نستوعب الرسائل التي حملتها خيوط هذه الجريمة.

ثانياً: هذه الجريمة القذرة بكل المقاييس الدينية والوطنية والأمنية، أثبتت بشكل قاطع أن دولة الإرهاب والعدو الأكبر للسلام في المنطقة (إيران) هي من يقف وراء حركات الشغب ومحاولات الإخلال بالأمن التي يرتكبها الخونة المتطرفون من بعض أفراد الشيعة في شرق المملكة. ولم تكن هذه الحقيقة سراً من قبل؛ إذ كل محاولات الإخلال بالأمن والأعمال الإرهابية التي يمارسها متطرفو الشيعة في كل المنطقة – لا في المملكة فقط – لا يشك أحد في ارتباطها الوثيق بنظام الملالي الثوري المتطرف في إيران.

لكن حملت وقائع جريمة التجسس مؤخراً الكثير من مظاهر وصور هذا الارتباط الوثيق بين الدولة المعادية للسلام (إيران) وبين ما يحدث من أعمال إرهابية في شرق المملكة على يد المنخرطين في المشروع الصفوي الطائفي الإيراني، إما علماً وتعمداً، وإما سذاجة بلغت منتهاها.

فكل أفراد خلية التجسس من الخونة، ثبت عليهم الارتباط والاتصال بعناصر من النظام الإيراني، وتلقيهم أنواع الدعم المالي، والتدريب والتوجيهات والتسهيلات من إيران لتنفيذ مخططاتها على ظهورهم.

وكان أهم بنود العمل لدى أفراد هذه الخلية، التبني الكامل لأعمال الشغب والإرهاب في شرق المملكة – خاصة القطيف – بتجنيد من يباشرون هذه الأعمال الإجرامية، والتواصل معهم، ودعمهم مادياً بالأموال، ومعنوياً بتوقيع البيانات للدفاع عن إجرامهم، وغير ذلك من وسائل.

ثانياً: أنه بخلاف الكثير من جرائم التجسس التي تقع في دول العالم، لم تأتِ هذه الجريمة بدافع الطمع المادي؛ إنما كانت مرتبطة بشكل وثيق ذات أهداف وغايات طائفية أكثر من كونها مادية.

وهذا ما يزيد الجريمة خطورة وتعقيداً، ويوجب التعامل معها بحذر أكثر، وذلك بضرورة العمل الحثيث على بث الوعي لدى من يشارك هؤلاء الخونة في ذات الانتماء العقائدي أو المذهبي، أن يحذر مراراً من أن يكون انتماؤه هذا مزلة قدم تأخذه بعيداً عن أهله ووطنه، وتجعله ينخدع بما ترفعه الدولة العدو المارقة (إيران) من شعارات دينية، تحاول من خلالها توظيف واستقطاب أتباع هذا المذهب بما يحقق أطماعها التوسعية وأهدافها الطائفية الشعوبية، وتجعلهم يعمون عن رؤية حقيقة تلك الأهداف.

ثالثاً: كشفت وقائع وأحداث هذه الجرائم حقيقة كبرى يجب على مواطني المملكة إدراكها قبل غيرهم، ألا وهي أن خيوط المكر الإيراني، والإجرام الصفوي تستهدف الشيعة قبل السنة من أبناء المملكة؛ إذ يأبى ملالي طهران إلا أن يسلبوا مواطني المملكة من الشيعة ما يتمتعون به من حياة كريمة، ومواطنة وانتماء راسخ لوطنهم المملكة، وبذات الأسلوب والمبدأ الذي تتعامل به إيران مع من يعارض سياساتها وإجرامها في العراق ولبنان، وحتى في داخل إيران، من تصفيتهم جسدياً، وإزاحتهم بأي أسلوب قذر عن طريق مخططاتها، فإنها تحاول تطبيق ذلك على أبناء المذهب الشيعي داخل المملكة.

وهذا ما كشفته وأكدته وقائع الجرائم المكتشفة مؤخراً، من خلال عدة صور وشواهد. ومن ذلك ما ارتكبه المجرم الثاني في تلك الخلية من تزويده العناصر الإيرانية مباشرة وعن طريق المدعى عليه الأول وفي وسائط التخزين تقريراً عن عدد من الشيعة العاملين في السلك العسكري في المملكة العربية السعودية وعن أحوالهم وأماكنهم وأنشطتهم ومعلومات عن أحداث الشغب في القطيف وأسماء الموقوفين والمصابين فيها والتهم الموجهة لهم وأسماء أبرز مراجع التيارات الشيعية المختلفة في المملكة ونوعية الصراع الدائر بين التيارات ودور عدد من مرجعياتهم وتلقيه من أولئك العناصر عن طريق المدعى عليه الأول استبيانا يحتوي على استفسارات عن عدد الشيعة بمحافظة الأحساء والقطاعات والجهات التي يعملون بها وشهاداتهم العلمية وأرقام هواتفهم. وهكذا المجرم السادس الذي أدانه الحكم بتقديمه تقارير لإيران عن الأوضاع الأمنية في العوامية بمحافظة القطيف ورأي بعض سكانها المؤيدين وغير المؤيدين للمظاهرات المحظورة بالقطيف. ودلالة ذلك واضحة لا تخفى في أن الغاية هي إلحاق غير المؤيدين للمظاهرات والمشاركين فيها بالمؤيدين والمشاركين، وإلا فالتعامل مع من يرفض ذلك وفق الأسلوب الإيراني الصفوي المعتاد. وهذا يعطينا التفسير الجلي الواضح لما يتعرض له من يظهرون الولاء للوطن، والانتماء الصادق له من الشيعة في المملكة، من إيذاء وتشويه سمعة واعتداءات، وتحريض مكونات مجتمعهم ضدهم.

رابعاً: جاءت وقائع هذه الجرائم لتؤكد المؤكد، وتزيد الثابت ثبوتاً، بأن حكومة ملالي طهران، ليست دولة سوية مدنية، ولا تصلح أن تكون عضواً صالحاً في النظام الدولي، ولا تؤمن بغير مبادئ الإرهاب الثوري، والبلطجة والإجرام، حتى صارت تمارس إرهابها وبلطجتها بأدوات الدبلوماسية ومن خلال وسائل الاتصال والعلاقات الدولية، ضاربة عرض الحائط بمبادئ القانون الدولي.. فهي ذات التاريخ الأسود الطويل في التعدي على سفارات الدول وبعثاتها الدبلوماسية، وتوظيف سفارات إيران وأعضاء بعثتها الدبلوماسية كذلك لزعزعة أمن الدول الأخرى والتدخل في شؤونها والتخطيط للأعمال الإرهابية على أرضها، مؤكدة بذلك أنها توظف الإرهابيين والمجرمين سفراء وأعضاء بعثات دبلوماسية. وهذا ما حدث تماماً في وقائع جرائم خلية التجسس المحكوم عليها، إذ تم توظيف سفارة طهران ودبلوماسييها للتنسيق والترتيب والتواصل مع أعضاء خلية الخيانة.

وللحديث بقية بإذن الله. والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني
الأوسمة: