أهمية ضبط ممارسة التدريب القانوني

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

مع تزايد الاهتمام بمجال القضاء والقانوني، وفي ظل هذه المرحلة الانتقالية الضخمة التي يمرّ بها القضاء السعودي للعبور نحو عهده الإصلاحي الجديد الذي رسم معالمه وأرسى دعائمه وقاد خطاه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله – حفظه الله ووفقه – منذ كان ولياً للعهد. يُعتبر التدريب القانوني من أكثر المجالات أهمية وفاعلية في المشاركة في صناعة هذه المرحلة القضائية القانونية الجديدة.

إذ أصبح هذا التدريب مطلباً مُلحّاً لكل الجهات القضائية التي صارت ملزمة بتوفير التدريب لمنسوبيها من قضاة ومستشارين وأعوان قضاة.

كما أن التدريب القانوني يعتبر أداة ضرورية لا يستغني عنها المتخرجون حديثاً في الشريعة والقانون، الذين يحتاجون لصقل مهاراتهم، وتدعيم تأهيلهم النظري العلمي، بخبرة واقعية عملية يتطلعون للحصول عليها من أهل الاختصاص من قضاة ومستشارين ومحامين ممارسين ذوي خبرة ودراية.

إن واجب وزارة العدل بما عليها من مسؤولية الإشراف على العمل القضائي والواقع القانوني، يفرض عليها أن تلتفت إلى مجال التدريب القانوني وتوليه عنايتها وتبسط عليه رقابتها وإشرافها

وفي ذات الوقت فالتدريب القانوني أيضاً مما لا يستغني عنه حتى القانوني ذو الخبرة، الذي غالباً ما تكون خبرته محصورة في مجال واحد أو أكثر من مجالات القانون والقضاء، بينما يعوزه تقوية خبرته في مجالات أخرى قد لا تكون أتيحت له فرصة العمل أو الممارسة فيها من قبل، إذ القانون كالطب له عدة فروع لا يعني إجادة بعضها إجادة سائرها.

كل هذه العوامل أدت إلى ازدهار سوق التدريب القانوني، واشتداد الحاجة إليه، ليكون بذلك مجالاً استثمارياً خصباً، يحفّز على الطمع في الدخول فيه وانتهاز فرصته.

ومن أعظم الإشكالات التي يواجهها التدريب القانوني دوماً، اختيار المدربين الأكفاء القادرين على تقديم ما يحتاجه المتدربون، ويتطلعون إلى الحصول عليه من خبرة عملية، وزيادة مهارة، وإدراك لموضوع التدريب.

فالتدريب في أي موضوع قانوني يحتاج إلى مدرب مؤهل في هذا الموضوع علمياً، وممارس له عملياً، ومدركاً لواقعه في الدولة التي يقوم بالتدريب فيها. إذ لكل دولة واقعها القانوني والقضائي الخاص.

وبسبب أهمية وحساسية اختيار المدربين فقد اختلفت الآراء والاجتهادات حول هذا الموضوع بدرجة كبيرة بين عدة رؤساء لديوان المظالم، فكان كل رئيس يطبّق ما يراه أنفع وأجدى في التدريب، بحسب قناعته واجتهاده ورؤيته.

ففي مرحلة كان ديوان المظالم يبتعث قضاته خارج المملكة في دورات تدريبية قصيرة في كل فرع من فروع ومجالات قضائه. ثم في عهد آخر عدل الديوان إلى استقدام مدربين من خارج المملكة يختارهم بعناية، ويعهد إليهم بتدريب قضاته. ثم رأى في مرحلة أخرى أن ذوي الخبرة العملية الطويلة من قضاته المعروفين بتميزهم، أجدى وأكثر نفعاً لتدريب زملائهم من قضاة الديوان المستجدين أو الأقل خدمة وخبرة، فصار يعقد الدورات التدريبية التي يقدمها قضاة الديوان أنفسهم، داخل أروقة الديوان.

إذاً فاختيار المدرب، هو الأهم في هذه العملية. وهو الأساس في نجاحها أو فشلها.

وبرؤية سريعة لواقع التدريب القانوني في المملكة حالياً، في ظل تنامي الحاجة إليه من المستفيدين، واشتداد المنافسة فيه بين المستثمرين، نجد أن هناك انفلاتاً كبيراً للأسف في قضية اختيار المُدرب. وصار التساهل هو السمة الأغلب على ذلك.

وليس هذا التساهل مقصوراً على المعاهد أو مراكز التدريب التجارية الباحثة عن الربح، بل حتى الهيئات والجمعيات غير الربحية التي تسعى للمساهمة في تقديم خدمة التثقيف والوعي القانوني، أصبحت لا تبالي بتقديم أي أحد يبدي تطوعه لتقديم ورشة عمل أو دورة تدريبية قصيرة، مهما كانت حصيلته العلمية أو خبرته العملية، أو حتى قدرته على توصيل المعلومة وتبسيط الفكرة.

ومما يؤسف له أن التدريب القانوني اليوم، أصبح كلأً مباحاً للجهات الباحثة عن الربح، أو للأشخاص الباحثين عن التفاخر والتظاهر وإضافة شيء لسيرهم الذاتية، أو تحقيق ظهور إعلامي عبر هذا الطريق. بينما يأتي في آخر اعتباراتهم أن يكونوا يملكون ما يُقدّمونه لمن يجلسون أمامهم بحثاً عن زيادة خبرة أو رفع مستوى كفاءة.

وفي ذات الوقت غابت عن ميدان التدريب – إلا قليلاً – أسماء أهل الاختصاص والخبرة الطويلة الذين يليق بهم التدريب، ويعتبرون هم الأحق والأجدر بالتصدي والتصدر له.

كم بين أيدينا من القضاة أو المستشارين القانونيين ذوي الخبرة الطويلة الذين أحيلوا على التقاعد بطلبهم أو بقوة النظام، الذين عركتهم الخبرة العملية الطويلة، وأصبحوا في درجة متقدمة من إدراك واقع المجال القضائي أو القانوني الذي عملوا فيه طويلاً. بينما لا وجود لهم في ميدان التدريب القانوني، ولعل السبب الأهم في ذلك هو مزاحمة قليلي الخبرة ضعاف التأهيل لهم. فأصبح من ترك القضاء بعد أن عمل فيه قرابة ثلاث سنوات، يزاحم من أفنى في العمل القضائي أكثر من عشرين سنة.

ولست هنا أُعلّق القدرة على التدريب بعدد سنوات الخبرة، أو بصغر أو كبر سن المدرب، ولكني ألفت النظر إلى أهمية مراعاة التفاضل في الخبرة والتأهيل.

إن واجب وزارة العدل بما عليها من مسؤولية الإشراف على العمل القضائي والواقع القانوني، يفرض عليها أن تلتفت إلى مجال التدريب القانوني وتوليه عنايتها وتبسط عليه رقابتها وإشرافها.

يجب أن يكون هناك معايير لاختيار المدربين في التدريب القانوني، واشتراط حصول المدرب على ترخيص من الوزارة يجيز له ممارسة هذا العمل مع تحديد المجال الخاص الذي يجوز له التدريب فيه.

يجب إلزام كل جهة أو معهد يُنظم دورة تدريبية قانونية، أن يُعلن عن كامل مؤهلات المدرب الذي يتعاون معه لتقديم أي دورة تدريبية، بما في ذلك: مجال خبرته العملية السابقة، ومؤهله العلمي الأكاديمي، وعدد سنوات الخبرة، وغيرها من أهم المعلومات التي تعطي للمتدربين القدرة على فحص كفاءة هذا المدرب.

إن مشكلتنا في المجتمع السعودي أنه وجد بيننا أناس يبحثون عن الوجاهة عبر وسائل تستخدمها المجتمعات المتحضرة للنفع والفائدة ولا علاقة لها بالوجاهة. وخذوا على ذلك الكثير من الأمثلة ومنها:(التأليف) (الشهادة العلمية العليا) (كراسي البحث في الجامعات) (التدريب) (الكتابة الصحفية) وغيرها الكثير.

وهذه القضية مسألة وعي بالدرجة الأولى، ومتى ما ارتقى وعي المجتمع بذلك فإنه يضيق الخناق على المتسلقين الباحثين عن الوجاهة على حساب مصلحة المجتمع. وهذا ما لا أفقد الأمل في تحققه يوماً بإذن الله.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني