أيها المُهدِّد بالدعاء.. ليس لك من الأمر شيء

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

عجباً لمن يدّعي الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بينما هو في طريقته يرتكب أعظم المنكر ويجعل احتسابه مستحقاً لاحتساب عليه، فإن شريعة الإسلام لا تُقرّ بأن الغايات تبرر الوسائل، بل يجب في دين الله عز وجل أن تكون الغاية شرعية، والوسيلة إليها شرعية، وأن يكون كلاهما على وفق ما أمر الله به عز وجل وشرعه لنا في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .

من هذا المنطلق لا أظن أحداً يسعه إقرار ما صدر عن بعض من زعموا الاحتساب وإنكار المنكر من الاجتراء على الله عز وجل والتألي عليه سبحانه، بتهديد من يرونه مرتكباً لمنكر بالدعاء عليه بمرض مميت، وزعم ُ أحدهم أن إصابة الوزير غازي القصيبي " غفر الله له ورحمه " بهذا المرض، إنما كان بسبب دعاء هذا المتألي عليه، ألا بئس ما زعم .

هل غاب عن هذا الخاطئ الأثيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصابه المشركون يوم أحد فشجوا رأسه وكسروا رباعيته، قال : (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته ؟! وجعل عليه الصلاة والسلام يدعو على رؤساء المشركين مثل أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فأنزل الله عز وجل عليه : (ليس لك من الأمر ٍ شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) وجاء عند البخاري ومسلم أن هذه الآية نزلت حين كان النبي عليه الصلاة والسلام يقنت في صلاة الفجر بعد الركوع يدعو على أقوام فيقول : اللهم العن فلاناً وفلانا.

قال الإمام القرطبي " رحمه الله " في معنى هذه الآية : (إنما نبه الله تعالى على نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء . والتقدير : ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السماوات وما في الأرض دونك ودونهم، يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء).

وفي هذه الآية ما يدل على أن اختيار الله عز وجل غالبٌ على اختيار العباد، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئًا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى .

فهل بقي بعد هذا الحكم الشرعي الثابت، ما يمكن أن يُبرر لما ارتكبه من هدد مُسلماً بالدعاء بمرض السرطان، كما دعا على مسلم آخر يزعم أنه أصيب بذلك بسبب دعائه ؟

ثم إن العجب لا ينتهي حين لا نسمع من طلبة العلم والدعاة رفع الصوت بالإنكار على هذا القول المنكر العظيم ! حتى لكأنهم لا يرونه منكراً. بل إن بعضهم سارعوا إلى تزكية من اجترأ على الله عز وجل بهذا القول الفاسد الظاهر الفساد، وزعموا أنه من الصالحين ومن أهل العلم والدين ! .

وبالرجوع إلى أصل المشكلة وهو أسلوب التجمهر والضوضاء والغوغائية التي يتبعها بعض من يسوقهم الحماس والعاطفة دون علم، فتراهم في كل مناسبة، ومع كل حدث يلجأون لهذه الأساليب بدعوى الاحتساب وإنكار المنكر، نجد أن من أبرز أسباب استمرار هذه المشكلة صمتُ العلماء الموثوقين عن بيان الحق فيها وهل هي مقبولة أم لا؟

وهذا الصمت أو الإنكار على استحياء لمثل هذه التصرفات التي وصلت إلى حدٍ ظاهر النكارة والإثم، من شأنه بقاء المشكلة واستفحالها .

وإذا كُنا نفاخر الناس بتطبيق الشريعة الإسلامية، والاحتكام إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أفلا يكفينا قول الله سبحانه : (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر ِ منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) أي أن من الواجب عند الفتن أو الأمور المشتبهات الرجوع إلى العلماء الربانيين والاستنارة بهم والصدور عن رأيهم وفتواهم .

وقد كان هذا ديدن أهل هذه البلاد إلى زمن قريب، فكان للعلماء كلمتهم، وتأثيرهم، ومكانتهم التي أراد الله لهم، فيكونون مناراً يُهتدى بهم في الظلمات، ومرجعاً عند المهمات . أما اليوم فقد زهِد الناس في العلماء، وأصبحت العواطف وحدها تصنع العواصف، بعيداً عن العلم الشرعي الصحيح والتأصيل والفهم الموافق لكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .

بل أصبح العلماء محل تهمة وازدراء عند بعض هؤلاء الذين تسيّرهم عواطفهم الخاوية، فاجترأوا على التقليل من مكانة العلماء وتزهيد الناس فيهم والحط من قدرهم، ووالله إن ذلك لا يقود إلى خير ولا إلى فلاح أبدا .

أسأل الله أن يُصلح جميع أحوالنا، وأن يجمع على الحق كلمتنا، وأن يهدي ضالنا، ويؤلف قلوبنا، وأن يديم علينا نعمة الأمن والاستقرار وإعلاء كلمة الله عز وجل وتحكيم شريعته آمين.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني