الإحسان في القضاء أيضاً
عندما تحدثت ُ في المقال السابق عن الإحسان في القضاء، وأشرت ُ إلى أن القاضي المسلم َ مأمور ٌ من الله - عز وجل - بالإحسان إلى جانب كونه مأموراً بالعدل، وأن هذين المعنيين لا يفترقان في شريعة الإسلام، كيف لا ونحن نسمع على منبر كل خطبة جمعة التذكير بهذه الآية الكريمة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). وقد أشرت ُ في المقال السابق إلى معنى الإحسان المطلوب من القاضي المسلم، وأوردت بعض صوره، رأيت من المناسب هنا لأهمية هذا الموضوع أن أعود إلى زيادة إيضاح هذا المعنى لعل الله أن ينفع به. فأقول إن الإحسان يدور حول معنيين رئيسين هما (إتقان العمل ونفع الخلق ورحمتهم). أما إتقان العمل فقد ورد فيه قوله - صلى الله عليه وسلم: ''إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه''، وإن أولى الأعمال بالإتقان ما يقوم به القاضي في أدائه لرسالته العظيمة من الفصل في الخصومات وحفظ الحقوق وصيانتها من الاعتداء. وأشرت ُ إلى أن القاضي مأمور ٌ بالتزام أحكام الشرع والتقيد بما يصدره ولي الأمر من أنظمة ٍ وتعليمات تضمن حسن سير القضاء وتحفظ حقوق المتقاضين. وفي هذا السياق أيضاً أشرت ُ إلى ما أشار إليه بعض الفقهاء – رحمهم الله – من استحسان أن يبين القاضي للمحكوم عليه وجه الحكم وسببه، وأن يبلغه الحكم برفق ومن ذلك قول الإمام السرخسي – رحمه الله –: '' وينبغي له – أي للقاضي – أن يعتذر إلى من يخاف أن يقع في نفسه عليه شيء إذا قضى عليه، وأن يفسر للخصم ويبين له، حتى يعلم أنه قد فهم عنه حجته وقضى عليه بعدما فهم''. ويدخل في هذا التوجيه (تسبيب الأحكام القضائية)، وقد قرأت كلاماً لبعض أصحاب الفضيلة القضاة ينتقد إلزام القاضي بالتسبيب ويحتج لرأيه بأن أغلب الناس لا يفهمون مآخذ الأحكام الشرعية القضائية حتى وإن بينها القاضي لهم ووضحها. وهذا الكلام مردود ٌ عليه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول الناس عملاً بهذه الطريقة وذلك كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح قوله للمتخاصمين: ''إنما أنا بشر ٌ مثلكم أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت ُ له من حق أخيه بشيء فإنما أقتطع له قطعة ً من نار، فمن شاء فليأخذ ومن شاء فليدع''. فهذا تبيين منه - صلى الله عليه وسلم - لطريقته في الحكم، وما يبني عليه حكمه. كما أن من الإحسان في القضاء أن القاضي ينبغي له أن يصبغ جلسة المحاكمة بالسكينة والروحانية والتذكير بالله ـ عز وجل ـ وبما عنده من عقاب ٍ وثواب، وتذكير الناس بحقارة الدنيا وهوانها على الله، وغير ذلك من المعاني التي تحيي القلوب وتزيد الإيمان وتذكر الغافل، فإن في الناس خيراً كثيراً، وإن هذا التذكير متى خرج من قلب ٍ مخلص، وبنية الإصلاح وابتغاء مرضاة الله ـ عز وجل، فإنه سيكون له - بإذن الله - أثراً حسناً في الناس، وفي تقليل الفجور في الخصومات والملاحاة والمماحكات التي تحدث بين المتخاصمين، خاصة ً من الأقارب وذوي الأرحام. ولهذا فإن من المؤسف جداً أن تجد كثيراً من جلسات المحاكم لدينا، ميداناً للسباب والشتائم، ورفع الصوت وتجد القاضي ما يكاد ينظر في خصومة ٍ إلا ويعلو صوته ويشتد غضبه ويهدد ويتوعد، كما يصدر من أطراف الدعاوى كذلك من السلوكيات والأخلاق السيئة ما يندى له الجبين، بينما حين نرى ساحات المحاكم في كثير ٍ من الدول غير الإسلامية من الدول المتحضرة، محاكمات ٍ هادئة ٍ منتظمة دقيقة الإجراءات، يعرف فيها كل طرف ٍ من القاضي والخصوم دورهم، ويلتزمون بحدود معروفة ٍ سلفاً بينهم، فينظر القاضي الدعوى بسكينة ٍ وهدوء ثم يحكم فيها بحكم ٍ يحوطه الاحترام والتقدير. (ألسنا أولى بذلك منهم). وفي هذا الجانب أتذكر أن فضيلة شيخنا الشيخ إبراهيم الراشد الحديثي رئيس محاكم منطقة عسير سابقاً – غفر الله له ورحمه آمين – كان إذا انتهت المرافعة بين الخصوم وأوشك أن يصدر حكمه في القضية يقول لهم: ( تذكروا يا إخوان أن هذه محاكمة الدنيا، وأن هناك محاكمة ٌ أخرى تنتظركم في الآخرة، القاضي فيها هو الله عز وجل والشهود جوارحكم، وأنه تنشر يومئذ ٍ دواوين المظالم والخصومات التي طويت في الدنيا فيعاد نظرها فيقضى يومئذ ٍ بالعدل وهم لا يظلمون). وكانت هذه الكلمات منه ـ رحمه الله ـ تفعل في الناس فعل السحر وتؤدي إلى انتهاء كثير ٍ من الخصومات صلحاً، فهل من قضاتنا اليوم من يفعل ُ ذلك؟. وكذلك فما المانع أن يحكم القاضي مثلاً على أحد العصاة بتعزير ٍ شرعي على معصية ٍ ارتكبها، ثم يعلم أنه فقير ٌ فيتصدق عليه؟ أو أن يحكم على مدين ٍ بقضاء دينه لغريمه، ثم إذا علم فقره وحاجته أن يسعى معه بسداد دينه فيشفع له عند أحد المحسنين ليقضي دينه؟ قد يعتقد بعض الناس أن كلامي هذا فيه شيء من المثالية وبعيد ٌ عن الواقعية، إلا أني أؤكد أن هذه هي حقيقة الإسلام وأخلاقه التي يدعو إليها، من الرحمة والرفق والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومحبة الخلق والشفقة عليهم من كل ما يضرهم في الدنيا والآخرة. إني أدعو إلى جعل ساحات محاكمنا ساحات ٍ قضاء ٍ شرعي ٍ بكل معنى الكلمة، أريد أن ينظر غير المسلم إلينا في ساحات المحاكم، كما ينظر إلينا في باحات المساجد، لينظر إلى صورة الإسلام وأخلاقه فيدعوه ذلك إلى الدخول في ديننا أو على أقل تقدير إلى احترامنا. فهل إلى ذلك من سبيل؟ إن الإجابة عند أصحاب الفضيلة القضاة وهم أهل ٌ لكل خير وفضيلة وفقهم الله. والحمد لله أولاً وآخراً وما توفيقي إلا بالله.