الإعلانات التجارية بين حماية المستهلك والرقابة القانونية

حماية المستهلك
مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

تحدث كثيرون من المهتمين عن جانب الإعلانات التجارية عن السلع والخدمات، ونادوا بضرورة حماية المستهلك من التأثير السيئ والضار لهذه الإعلانات، إلا أن لي اليوم وقفة من نوع آخر حول هذه الإعلانات، وما تحمله في طياتها من مخالفات قانونية ومخاطر جسيمة على الدين والأخلاق، والصحة، والأموال، والنظام العام، حيث تمتلئ الصحف ووسائل الإعلام بكثير من الإعلانات التي لو خضعت لرقابة حقيقية فاعلة لتكشفت عن صور من المخالفات والأخطار الجسيمة التي يجب محاربتها والقضاء عليها ومحاسبة كل من يقف وراءها. ولعلي أوجز وقفاتي مع هذا الموضوع في النواحي التالية: أولا: وجود المفارقة الكبيرة بين تعامل الجهات الحكومية مع أنشطة الأفراد وسلوكياتهم في الحياة العامة، وفقاً لطبيعة اختصاص كل جهة، وبين تعامل تلك الجهات الحكومية مع ما يحدث في سوق الإعلانات التجارية، وكأن هذه الإعلانات تحدث خارج حدود الرقابة أو أنها لا تدل على شيء، فإذا أراد شخص إقامة مشروع تجاري ولو بسيطا لإنتاج أي سلعة أو تقديم أي خدمة تتبارى البيروقراطية الحكومية لتحطيم مشروعه البسيط بما تضعه من قائمة الاشتراطات النظامية التي لا أول لها ولا آخر، بل كثير منها من قبيل الشروط التعسفية التي تؤدي إلى تحطيم فكرة المشروع، ووأدها في مهدها، ما حال دون قيام كثير من الأفكار الاستثمارية الناجحة أو المحاولات الطموحة لبعض الأفراد في الحصول على كسب مشروع، ولعل البلديات تتصدر قائمة تلك الجهات الحكومية في هذا المسلك، إلا أنه في ذات الوقت تجد سوق الإعلانات التجارية سوقاً مفلوتة من أي رقابة على جميع المستويات، فما إن يخطر ببالك الإعلان عن أي خدمة أو سلعة في وسيلة الإعلام حتى تباشر في تلقي اتصالات المستهلكين وطالبي تلك السلعة أو الخدمة، وأنت في منأى تام عن جميع وجوه الرقابة، ولا يمكن أن يقف في وجهك أحد من الجهات المختصة ليسألك عن مضمون إعلانك وعن شرعيته من عدمها! ثانياً: إن كثيراً من الإعلانات التجارية تحمل بوضوح أو تلميح مخالفات للأنظمة، بل أحياناً تنطوي على جرائم ومخالفات جنائية دون أن يلتفت لها أحد أو يتتبعها أحد ومن ذلك مثلاً أن يعلن شخص قدرته على تقديم خدمة مراجعة إحدى الجهات الحكومية لإنجاز معاملة بطريقة غير مشروعة، ما يشكل إعلاناً مكشوفاً عن جريمة رشوة، ويمر هذا الإعلان دون رقابة، أو مساءلة، وكأنه لم يقل شيئاً، ومن الإعلانات التي تحمل هذه السمات مثلاً أن تجد شخصاً يعلن تخصصه في التعقيب لدى جهة حكومية معينة لإنجاز نوع محدد من المعاملات فتجد إعلاناً يقول: (متخصصون في مراجعة مكتب العمل لاستخراج التأشيرات)! فهل سأل أحد صاحب هذا الإعلان عن مقصوده؟ أم هل سأله أحد عن تعامله مع استخراج التأشيرات بما يتجاوز حدود المسموح به نظاماً كيف يخرجها؟ ثالثاً: من أخطر ما تتضمنه الإعلانات التجارية استخدامها من قبل بعض المنحرفين سلوكياً للتضليل أو الوصول لأغراض غير أخلاقية، ومع ذلك لا يجدون أي صعوبة في استخدام أسلوب الإعلان التجاري للوصول إلى أغراضهم، ولا يتعرضون لأي رقابة أو مساءلة من أي نوع يجعلهم يرتدعون عن هذه السلوكيات المشينة، فتجد بعض العابثين مثلاً يضع إعلاناً يقول: (مطلوب موظفات من حاملات الشهادة الثانوية برواتب مغرية.. إلخ ثم يضع للاتصال رقم هاتفه الجوال! فهل سأله أحد عن حقيقة إعلانه وعن طبيعة الجهة التي طلبت هذه الوظائف أم أن سوق الإعلان مفلوتة لا يمكن أن تخضع لأي رقابة! إن مثل هذه الإعلانات تحمل في طياتها كثيرا من الجرائم والانحرافات والسعي لاستغلال السذج من الناس أو تضليل السفهاء والإيقاع بهم، ولعل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسعى لتفعيل دورها في الاحتساب على مثل هذه الأخلاقيات، وبسط رقابتها على ميدان الإعلانات لتجد فيه، وللأسف قدراً قد يكون كبيراً مما يمكن ضبطه من الجرائم الأخلاقية. رابعاً: تحمل الإعلانات التجارية في بعض الأحيان ظواهر كان من الواجب الوقوف عندها، ودراستها، وتحليلها، ومعرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراءها، والتحقق من سلامتها وموافقتها للنظام العام من عدمه، ومن ذلك مثلا ما تعج به الصحف، ووسائل الإعلام من الإعلان عن التنازل عن الخادمات، والسائقين بطريقة توحي بأن هناك خللاً في جانب من الجوانب؛ إما أن يكون في إقدام البعض على استقدام ما لا يحتاجون إليه فعلياً من الخدم والسائقين ثم عرضهم في سوق النخاسة الحديث الذي يبيع ويشتري في هؤلاء البشر، ويستغل ظروفهم وحاجتهم المادية للمتاجرة بهم بطريقة تخالف الأحكام الشرعية، والنظامية، ومبادئ حقوق الإنسان فلو فتشت عن هذه التجارة في البشر لوجدتهم في كثير من الأحيان يباعون ويشترون دون رضاهم، ودون حفظ حقوقهم، بل تكون أماكن إقامتهم فترة الإعلان والترويج لا تحظى بالحد الأدنى المناسب لكرامة بني البشر، إذ يجمعون في سراديب أو أقبية أو غرف غير مكيفة، ولا مريحة، ولا يوفر لهم ما يحتاجون إليه من مأكل، ومشرب، ولباس إلا بطريقة بهيمية. وفي الجانب الآخر، تحمل هذه الظاهرة أيضاً نوعاً آخر من الخلل يتمثل في كثرة هروب الخادمات والسائقين، وامتناعهم عن العمل عند كفلائهم الأساسيين، ما يكبد صاحب العمل خسارة ً كبيرة، ويوقعه في مأزق البحث عن بديل في أضيق الظروف والأوقات، خاصة أيام الحاجة والمواسم مثل شهر رمضان أو المناسبات الاجتماعية، فيقع فريسة لتجار البشر الذين يستغلون حاجة الناس فيبيعونهم هؤلاء الخدم بأغلى الأسعار ودون أدنى ضمان أو حماية. فهل تقوم الجهات الحكومية بواجبها كل في ميدان اختصاصه لمتابعة الظواهر التي تحملها الإعلانات التجارية وتتبعها والبحث عن حقيقتها والتحقق من سلامتها؟ أم أن سوق الإعلان التجارية خارج حدود الرقابة؟ خامساً: أدى وجود الصحف المتخصصة بالإعلانات التجارية التي توزع مجاناً، وبطرق عشوائية إلى زيادة انفلات ميدان الإعلانات التجارية بحيث يمكن لأي كان أن يعلن عن أي شيء كان دون حسيب ولا رقيب، وأقل ما تحمله هذه الإعلانات من أخطار مجرد اللعب والعبث من معاكسات أو تلاعب بأوقات الناس وحاجاتهم ورغباتهم بالإعلانات الوهمية غير الأخلاقية. مما يوجب إعادة النظر في ضبط سلوكيات الإعلانات التجارية عبر جميع قنواتها والاهتمام بما تتضمنه هذه الصحف المجانية من مؤشرات غير شرعية أو نظامية. سادساً: إن المسؤولية القانونية تجيز لكل متضرر أن يقاضي الجهة التي قامت بالإعلان أو الصحيفة التي نشرت ذلك الإعلان دون التحقق من شرعيته أو نظاميته، ولكن يأتي السؤال الأهم والأكبر والأخطر: هل يعترف القضاء لدينا بمبدأ التعويض العادل عن الضرر المادي أو المعنوي؟ وهل يتعامل مع مثل هذه القضايا بما يتعامل به القضاء في الدول المتحضرة التي وصلت إلى درجة من الوعي والضبط، نحن أبعد ما نكون عن الوصول لمثلها؟ أم أن القضاء يرى أن كل ذلك هدر بحجة أنه قضاء يحكم بالشريعة الإسلامية؟ والشريعة الإسلامية حرّمت على المسلم أن يأخذ من مال أخيه أو يعتدي على حق من حقوقه (ولو عوداً من أراك - أي سواك-)؟ إن ميدان الإعلانات التجارية يعج بمخالفات شرعية ونظامية وأخلاقية وتجارية لا يمكن حصرها، وإن المسؤولية النظامية والقانونية تجاه هذه المخالفات موزعة بين كثير من الجهات الحكومية والخاصة كل حسب اختصاصه ومجال رقابته ما بين وزارة الداخلية، ووزارة التجارة، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، ووزارة الإعلام، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجمعية حماية المستهلك، وكل وزارة تجد إعلاناً يمس المرفق الذي تقوم عليه، فهل تمارس تلك الجهات دورها الرقابي الواجب في محاربة فوضى الإعلانات التجارية حماية للدين، والأخلاق، والأمن، والاقتصاد، وحقوق الناس، وسمعة الوطن أم يبقى ذلك الميدان فوضى تتزايد مع الأيام دون رقيب أو حسيب؟ أسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه الصلاح، وما توفيقي إلا بالله هو حسبي ونعم الوكيل.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني