الشوق للإيمان
يطيل الغريب السفر فيشتاق لوطنه الذي كان يألفه، وكلما أطال البعد اشتد به الشوق، فلا تهدأ نفسه ولا تسكن روحه إلا بالعودة إلى موطن حبه الأول. وكما قيل: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى.. ما الحب إلا للحبيب الأول.
وهكذا الإنسان المسلم الذي أنعم الله عليه بالنشأة الصالحة على الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، قد تذهب به المعاصي والذنوب والكبائر في طرق شتى، ويطول اغترابه، ويشتد بعده عن الإيمان والصلاة والقرآن. ويمضي زمناً قد يكون طويلاً، دون أن يهنأ فيه بصلاة خاشعة تقربه إلى الله زلفى، أو ينعم بمناجاة صادقة لله تزيح عن قلبه ما تراكم من هموم، أو يخلو مع الله عز وجل في لحظات يستفيق فيها إيمانه. ولكن.. مهما طال هذا البعد والاغتراب عن طريق الله عز وجل، فإن المسلم الذي يريد الله به الخير، لا بد وأن يأتي عليه يوم يستوحش طريقه، ويشعر بمرارة الغربة، وألم الفراق. وتشتد عليه دواعي النفس اللوامة لإعادته إلى منزله الأول، ومحل أنسه وسكون روحه.
ويتكشف لهذا الغريب الذي قد يكون أطال الاغتراب، أن هذه البلاد التي يتنقل فيها ليس بلاده، وأن الناس الذين يحيطون به ليسوا أهله، وأن له موطناً يحن إليه، ورباً كريماً يأوي إليه، ويدعوه صوت الأذان وقراءة القرآن والصلوات، إلى العودة سريعاً وعدم إطالة الاغتراب. ويوقظ ذلك في نفسه كامن الشوق.
يتذكر الإنسان الذي من الله عليه بنفس لوامة، أن له رباً كريماً يقول سبحانه عن عبده العائد إليه كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) متفق عليه.
وما أجمل وأعظم كلمات قرأتها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه أحسن الجزاء، يستعرض فيها شيئاً من فاقة العبد وفقره إلى الله عز وجل، فيقول: (إن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له فبذكره تطمئن قلوبهم؛ وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به..) ويقول أيضاً: (واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب؛ وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو: فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره: وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه. ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ، غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا (إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم) (لا أحب الآفلين) وكان أعظم آية في القرآن الكريم (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). ا. ه.
وفي هذا الشهر العظيم الذي أوشكت لحظاته على الانقضاء، تكثر دواعي الإيمان التي تصيح بالغرباء أن يعودوا، وتنادي الغافلين أن يفيقوا، وتوقظ في النفوس كوامن الإيمان الذي إن لم توقظه أصوات الأذان والصلوات والقرآن، فيوشك ألا يفيق أبدا، وقد تكون عاقبة صاحبه إلى الهلاك والخسارة.
(ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون(.
أسأل الله العظيم الرحمن الرحيم، أن يجعلنا ممن استجابوا لله ولرسوله إذا دعاهم لما يحييهم، وألا يحول بيننا وبين قلوبنا فنهلك.
والحمد لله أولاً وآخرا.