الفساد بالنظام

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

إن من أنجع الوسائل لمواجهة هذا النوع من الفساد، اختيار المسؤولين على أساس الأمانة والثقة والجدارة، وتقديم الأصلح على غيره، فإنه متى كان اختيار المسؤول مبنياً على اعتبارات شخصية، رغم وجود من هو أصلح منه، فلا ننتظر أن يثمر هذا الاختيار صلاحاً ونجاحاً

يقترن تناول الفساد الإداري دوماً بمخالفة النظام لأغراض ومصالح شخصية، أو استجابة لتوصية ووساطة عند الموظف أو المسؤول، وهو ما جعل نظام مكافحة الرشوة، صورة من صور جريمة الرشوة المعاقب عليها نظاما.

إلا أني سأتناول اليوم صورة أخرى أعتقد أنها تندرج ضمن وصف الفساد والانحراف الإداري عن المصلحة العامة، وخروجاً غير مقبول عن سنن العدل الواجب اتباعه. وهذه الصورة القبيحة المرفوضة، غالباً ما يعايشها الناس في حياتهم اليومية، ويعاني منها ويرفضها الكثير ممن وجدوا أنفسهم ضحايا لها ؛ إلا أن تناولها يعتبر نادراً، عند مناقشة موضوع الفساد وصوره، بينما هي فساد يجب محاربته، واعوجاج يجب تقويمه.

تلك الصورة هي أنه يحدث كثيراً أن يمارس الموظف أو المسؤول تمييزاً واضحاً بين المراجعين وأصحاب الحقوق والمعاملات، وذلك على اعتبارات شخصية ٍخاصة، ولكنه في ذات الوقت لم يرتكب مخالفة نظامية صريحة بأن يعطي بعض المراجعين ما طلبوه، ويمنع آخرين من ذات الطلب، مع أنه لا فرق بين من منعهم ومن أعطاهم في مسوغات الطلب، ولا في ظروفه.

وعند البحث والتقصي عن هذا الموضوع، يتبين أنه استند في منع فلان من طلبه إلى المادة كذا من نظام كذا ؛ إذاً فالإجراء في ظاهره نظامي . أما من وافق له على طلبه، فقد استند في الموافقة إلى مادة أخرى من ذات النظام أو نظام آخر؛ وهذا الإجراء في ظاهره نظامي أيضاً.

ولكن ما الفرق بين الحالتين ؟

الصحيح أن الفرق بين الحالتين ليس حكم النظام ؛ بل المصلحة أو العلاقة الشخصية بين المسؤول والمراجع . وكثيراً ما يفاجأ المراجع للجهات الحكومية، خاصة الخدمية منها، أن ما مُنع هو منه، قد سمح لغيره به، وعند المناقشة مع المسؤول يبرر ذلك أن الحالة الأخرى تختلف، وفي الحقيقة لا اختلاف سوى مدى العلاقة بالمسؤول أو المصلحة معه.

وهذه الحالة تتكرر كثيراً فيما يتعلق ببعض الأنظمة التي تكون صياغة نصوصها تمنح الإدارة سلطة تقديرية واسعة، أو عند وجود أكثر من نص نظامي تختلف أحكام بعضه عن بعض، ويكون فيها فرصة لذلك المسؤول في انتقاء وتطبيق النص الأقرب لهواه ومصلحته.

ومن آثار هذه الممارسة الفاسدة أن ترى تفريقاً بين المتماثلات، أو جمعاً بين المتناقضات، وتطبيق النص النظامي على حالة، ثم تطبيقه على نقيضها.

ومتى ما انتشرت هذه الممارسة وأصبحت مكشوفة للناس، فقدوا الثقة في مصداقية وأمانة ونزاهة المسؤولين، وأصبح لديهم قناعةُ أكبر بالبحث عن معرفة ٍ أو واسطة لدى المسؤول قبل مراجعة الإدارة، ودون الاهتمام بمدى أحقيتهم النظامية بما طلبوه.

وهذه الصورة من صور الفساد تكمن خطورتها في شدة خفائها، وصعوبة إثباتها. ولا يمكن غالباً كشفها إلا بتتبع ما قام به ذلك المسؤول من إجراءات، وما أصدره من قرارات، والتدقيق في مسوغاتها، والبحث فيها عن شيء من هذا التناقض.

وإذا كانت هذه المشكلة تواجه مراجعي الدوائر الحكومية؛ فهي أيضاً موجودة في التعامل مع موظفي الإدارة، ويلاحظونها في تعامل المسؤول معهم، وتفريقه بينهم، على اعتبارات شخصية، لا علاقة لها بالنظام، ولا بالمصلحة العامة.

فتجد مثلاً بعض المسؤولين، يُكلف موظفاً بعمل لا علاقة له بتخصصه، أو يندبه من مقر عمله إلى مكان آخر بعمل فيه تشريف وتكريم له، ويخصه بما لهذا العمل من مزايا مالية، بينما تجد من بين موظفي الإدارة من هم أحق بذلك إما لأنه اختصاصهم، أو لأنهم موجودون في مقر العمل الذي نُدب له غيرهم، ولديهم مثل ما لدى زميلهم أو أكثر من قدرة وتأهيل للقيام بالعمل.

ومثل هذه القرارات تُغطى غالباً بعباءة المصلحة العامة، وفي ديباجتها من النصوص النظامية التي توحي أن القرار صدر بالاستناد إليها، ولكن عند البحث والتدقيق، تجد نصوصاً أخرى في ذات النظام، تعارض هذا القرار معارضة صريحة، وتجعل منه مخالفا يستوجب الإلغاء.

وإذا كانت الجهات الرقابية، وهيئة مكافحة الفساد، تعانيان حالياً في مواجهة جرائم الفساد الظاهرة، وتكافحان للقضاء عليها ومحاصرتها، ويكاد يكون طريقهما في ذلك طويلاً وشاقاً وشائكاً ؛ فإنه من الصعوبة جداً أن نطالبهما بتتبع الصور الخفية للفساد، ومن غير المنطقي أن نحلم باليوم الذي ننجح فيه في القضاء على هذا الفساد الخفي.

ومع ذلك فلا يمكن أن يصل بنا الإحباط إلى تجاهل هذه المشكلة وتحاشي طرحها ومناقشتها وتعريتها، والتنبيه على خطورتها.

ثم إن من أنجع الوسائل لمواجهة هذا النوع من الفساد، اختيار المسؤولين على أساس الأمانة والثقة والجدارة، وتقديم الأصلح على غيره، فإنه متى كان اختيار المسؤول مبنياً على اعتبارات شخصية، رغم وجود من هو أصلح منه، فلا ننتظر أن يثمر هذا الاختيار صلاحاً ونجاحاً وتوفيقا؛ لأن ما بُني على باطل فهو باطل.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني