القضاء التجاري ودوره في تشجيع وحماية الاستثمار
مع اقتراب موعد استقلال القضاء التجاري عن تبعية ديوان المظالم، وبدء العمل في المحاكم التجارية المستقلة، يتجدد الحديث عن أهمية القضاء التجاري ودوره الأساسي في جذب وحماية الاستثمار بنوعيه الوطني والأجنبي.
فالاستثمار لا يقوم ولا ينمو ويزدهر إلا في ظل الأمن، والأمن القضائي القانوني هو أهم أنواع الأمن التي يبحث عنها المستثمر وأنى وجدها توجه نحوها.
فلا يكفي أبداً تشجيع الاستثمارات من خلال المبادرات التي تتضمنها الأنظمة والقوانين، ما لم يكن هناك قضاء يكفل الحماية للمستثمر، ويترجم الرغبة الصادقة للدولة في جذب وتشجيع وحماية المستثمرين.
وإذا كان العمل التجاري يقوم أساساً على عنصر الثقة والسرعة، فإن هذين العنصرين يعتبران ركناً أساسياً أيضاً في القضاء التجاري وليس في العمل التجاري فقط، وذلك من خلال سرعة الفصل في النزاعات التي تطرأ أثناء ممارسة العمل التجاري، وبأحكام قضائية تبعث على الثقة بسيادة القانون وتوفير العدالة.
وكما سبق لي أن أوضحت في مقالات سابقة، فإن القضاء التجاري في المملكة يمر في الوقت الراهن بمرحلة انتقالية عصيبة تفرض على المسؤولين عن القضاء أن يتنبهوا ويبذلوا غاية وسعهم في الحيلولة دون أي ضعف أو اهتزاز في مستوى أداء القضاء التجاري، بما يؤثر سلباً على النظرة إلى البيئة الاستثمارية في المملكة، وقد يؤدي لنزع الثقة في فعالية وكفاءة القضاء التجاري فيها، مما يتعذر كثيراً تداركه في حال حدوثه.
وإن أصعب وأخطر عنصرين يواجهان القضاء التجاري في الوقت الراهن هما:
أولاً: ما يجري حالياً من الزيادة غير المسبوقة في تعيين القضاة بأعداد كبيرة، وذلك لمواجهة التوسع الكبير في افتتاح المحاكم وتلبية متطلبات تطبيق النظام القضائي الجديد. ولا شك أن هذه الزيادة قد تكون على حساب الاهتمام بكفاءة ومستوى من يتم تعيينهم، خاصةً في ظل الضعف الواضح في مستوى تأهيل دارسي الشريعة والقانون في مرحلة البكالوريوس خاصةً، كونها هي المرحلة الأهم والأساسية في تكوين القاضي.
ثانياً: الانتقال في تبعية القضاء التجاري من مظلة ديوان المظالم إلى مظلة وزارة العدل، ويعلم كافة المختصين ما بين مدرستي ديوان المظالم ووزارة العدل من فروق كبيرة في مناهج الاجتهاد وطريقة العمل. وأخشى أن يؤثر ذلك سلباً على جودة الأحكام.
ولا يفوت التأكيد على أنه حتى في ديوان المظالم فقد شهدت أحكام القضاء التجاري في الآونة الأخيرة ضعفاً واضحاً وتحولاً عن المستوى الذي كانت عليه في السابق، وذلك بسبب ما أشرت إليه من تزايد أعداد القضاة الجدد الذين تعوزهم الخبرة الكافية في هذا النوع من القضاء.
إن القضاء التجاري في أمس الحاجة إلى الالتفات إليه بمزيد عناية واهتمام، وذلك من خلال عدة جوانب أهمها:
أولاً: إعادة النظر في مرحلة تكوين وتأهيل القاضي في الدراسة الجامعية لمرحلة البكالوريوس، وذلك بمراجعة مناهج كليات الشريعة والتركيز على تدريس مواد القضاء والقانون التي لا غنى للقاضي عن التضلع في فهمها واستيعابها.
ثانياً: يجب أن ينفتح القضاء التجاري على التجارب الدولية، والاجتهادات القضائية المماثلة في العقود المستحدثة، والإلمام بما لا غنى له عنه من معلومات يجب عليه مراعاتها في أحكامه، مثل المعاهدات الدولية ذات الصلة، والأعراف التجارية العالمية، وفهم طبيعة العقود المستحدثة، والقدرة على تكييفها ومقارنتها بأحكام الشريعة. وهذا يتم من خلال التأهيل في مرحلة الدراسة، ومن خلال التدريب أثناء العمل، ومن خلال تكثيف اتصال وتواصل القضاة مع نظرائهم في الدول الرائدة في هذا المجال. وكذلك عبر تأمين مصادر المعلومات التي يحتاجها القاضي في بحث هذه الجوانب. وذلك في كل محكمة تجارية، وعلى مستوىً عال من التجهيز والشمول.
ثالثاً: يجب أن يراعى في اختيار وتوجيه القضاة الجدد للعمل في المحاكم التجارية، التحقق من مناسبة شخصية القاضي للعمل في هذا النوع من القضاء، وقدرته على استيعابه، ورغبته أيضاً فيه وقناعته به، لأنه لا يمكن للقاضي أن يكون بالمستوى المطلوب من الكفاءة في القضاء التجاري، ما لم يتوافر فيه كل ذلك.
رابعاً: إن من الضروري أن تتوجه المحاكم التجارية إلى الاستعانة بالخبرات ذات الأهلية والكفاءة في القضاء التجاري من داخل أو خارج المملكة، وتزويد كل محكمة بكادر مؤهل منهم، بطرق الإعارة أو التعاقد أو غيرها من الطرق، من مستشارين وقضاة في دول عربية، وذلك لتقديم الاستشارات والدراسات للقضاة، والمساعدة في الارتقاء بالإجراءات، والمشاركة في صياغة الأحكام، حتى تقوم المحاكم التجارية على أساس صلب متين من الخبرة والتأهيل.
وأجدد القول: أن مستوى القضاء التجاري اليوم، غير مقنع ولا مرضٍ. ومستقبله القادم يحيط به الكثير من القلق. فيجب ألا نتأخر في القيام بما يتطلبه من إصلاح.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.