القضاء والإعلام .. إشكالية حقيقية (1-2)

القضاء والإعلام
مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

أعلنت وزارة العدل في خطوة محل تقدير وثناء عزمها عقد مؤتمر يناقش العلاقة بين القضاء والإعلام، بعد استطلاع لتجارب بعض الدول التي سبقت إلى عقد مثل هذا المؤتمر فكان له أصداءٌ إيجابية في تقريب وجهات النظر بين رجال القضاء والإعلاميين. وفي البداية لا بد من الاعتراف بوجود إشكالية حقيقية تسود العلاقة بين القضاء والإعلام في كثير من الدول خاصة الدول العربية وليست المملكة مستثناةً من هذا، بدلالة ما صرح به معالي شيخنا الشيخ صالح الحصين في الملتقى الأول للقضاء حيث أبدى كبير انزعاجه وانتقاده وتذمره من ممارسات الصحافة المحلية في تناولها بعض الشئون القضائية. كما أن هناك دراسة أعدها فضيلة الدكتور سعد بن مطر العتيبي المدرس في المعهد العالي للقضاء على 100 صحيفة سعودية “عادية وإلكترونية”، تناوَلَت القضايا القضائيَّة، وأفاد فضيلتُه:”أنَّ الإعلاميين لا يعْرفون التخصُّص؛ فكثيرٌ منهم لا يفرِّقون بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعيَّة، وبعضُهم ينادي بتَقْنين الأحكام أو تدوينها، ويزعُمُون أنه لا يوجد بلَد في العالَم لا يلجأ إلى التقنين، أو التدوين للأحكام، وهذا غير دقيق؛ فالبلاد الأنجلوسكسونية - ومنها أمريكا - لا يوجد بها تقنين مكتوبٌ، وإنما يلجأ القُضاة في أحكامهم إلى السوابق القضائية، فإذا لَم يوجدْ ما يناسب ما بين أيديهم من وقائع، كان على القاضي أن يجتهدَ للحكم في المسألة المعروضة عليه”. وفي الاتجاه الآخر فهناك أراءٌ لبعض المتخصصين تؤكد أن العلاقة بين القضاء والإعلام تكاملية وأن كلاً منهما يعتبر مكملاً للآخر من عدة وجوه ومن ذلك ما كتبه فضيلة شيخنا الدكتور ناصر المحيميد رئيس التفتيش القضائي في المجلس الأعلى للقضاء، حيث كتب فضيلته في العدد الثاني من مجلة العدل عام 1420هـ تحت عنوان (القضاء والإعلام)، ما يؤكد العلاقة الوثيقة والدور التكاملي بين القضاء والإعلام وأن بينهما ارتباطا وثيقا حتى في المدلول اللفظي لكل منهما في اللغة والاصطلاح، فالقضاء لغة يُعرف بأنه الإبلاغ والإعلام، كما أن من تعريفاته في الاصطلاح: الإعلام بالحكم الشرعي على وجه الإلزام. كما أشار فضيلته إلى أن الإعلام إحدى أهم وسائل تحقيق الأهداف القضائية. ولعل منشأ الإشكالية بين القضاء والإعلام يعود إلى عدة عوامل، ومن خلال تجربتي القضائية السابقة، ومتابعتي لأبرز القضايا التي كان فيها ارتباط بين القضاء والإعلام أحب المشاركة ببعض الملاحظات التي أرجو أن تكون مفيدة عند بحث العلاقة بين القضاء والإعلام أو تأطير وتنظيم العلاقة بينهما فأقول: أولاً: إن كلاً من القضاء والإعلام ينشد الاستقلال ويبحث عن الحقيقة ويؤدي رسالة ً سامية ً لخدمة الشعوب، إلا أنه يجب التأكيد أن استقلال القضاء عن أي تأثيرات يجب أن يكون غاية وهدفاً أسمى لا يقبل النقاش ولا المساومة، وأن استقلال القضاء وهيبته أهم بكثير وأكثر خطراً من أهمية استقلال الإعلام، فالقضاء هو حامي الحريات والمحافظ على الحقوق، وهو الحصن الحصين لكل أحد، وبنزاهته واستقلاله وهيبته يأمن الناس على حرياتهم وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم، والقضاء لكل أمة هو عرضها الواجب الحماية، وهو عنوان سيادتها، وعلامة قوتها. وقد جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما معناه: (لن تزالوا بخير ٍ ما لم تعملوا عمل بني إسرائيل، بسطوا الجور حتى يفتدى، ومنعوا العدل حتى يشترى). وإذا كانت كل أمة ودولة تحرص على حماية قضائها وتحقيق ما يكفل قوته ونزاهته واستقلاله التام، مع أن تلك الدول تقوم على تحكيم القوانين الوضعية، فإن القضاء القائم على تحكيم الشريعة الإسلامية في دولتنا المباركة أولى بالحماية والاعتزاز والتأييد والحرص على سلامته من أي تأثير واستقلاله التام وحفظ هيبته والإلزام بما ينتهي إليه من أحكام قضائية، امتداداً لما أمر الله به سبحانه من تحكيم شريعته والتحاكم إليها وقبول ما تقضي به من أحكام، وأن ذلك هو شرط الإسلام وعنوان الإيمان قال تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) والقاضي الذي يحكم مستنداً إلى شريعة الله عز وجل متى اكتسب حكمه الصفة القطعية فإنه يكون الممثل للشريعة والحاكم باسمها شاء من شاء وأبى من أبى. ثانياً: إنه لا ينكر أحد ما للإعلام من تأثيرٍ كبير في أفكار الناس وعقولهم وقناعاتهم ومشاعرهم في كل دول العالم بحيث أصبح الإعلام سلطة لا يستهان بها أبداً، وبالتالي فمن واجب القائمين على وسائل الإعلام في المملكة أن يدركوا جيداً أن للقضاء هيبته واستقلاله التام، وأنه لا يجوز أن تكون أحكام المحاكم ساحة مفتوحة لكل ناقد ومناقش ومعترض ومستنكر مهما كان مفتقراً إلى أي خلفية شرعية أو قانونية تؤهله للتصدي لمثل هذا الأمر، وأنه يجب أن تتعاطى وسائل الإعلام مع الشئون القضائية بمسؤولية ووعي لا تتضمن أي نوع من الإساءة أو التشكيك في نزاهة القضاء وحياده، أو التعدي على هيبته واستقلاله الذي كما أشرت يعتبر عند كل الدول المتحضرة أمراً مقدسا. أما أن ننكر وجود تأثير لما ينشر في وسائل الإعلام حول القضايا المنظورة، فإن الشواهد الكثيرة تؤكد عدم صحة ذلك، بل هناك تأثير واضح وعلى أعلى المستويات لما تطرحه وسائل الإعلام في سير القضايا، بحيث تأخذ القضية التي يتناولها الإعلام أبعاداً من الاهتمام والحرص والاستعجال في نظرها ما لا تحظى به قضايا أخرى قد تكون أكثر أهمية ً منها، وهذا بحد ذاته يعتبر إخلالاً جسيماً بمبدأ العدالة، واختراقاً لاستقلال القضاء لما فيه من تأثير في الأحكام، بل إنه في بعض الوقائع القضائية يكون تأثير ما تنشره وسائل الإعلام في القضية أسوأ من تأثير الرشوة فيها. وكم من الوقائع التي مرت بنا مما كانت محل اهتمام إعلامي وكان الإعلام فيها قد تبنى وجهة نظر ٍ معينة إلا وخرج الإعلام فيها منتصراً حتى ولو كان الطرف الآخر هو القضاء!! ثالثاً: إنه عند الحديث عن أهمية الإعلام وضرورة ضمان حرية التعبير والنشر لا بد أن يكون لذلك قيود تراعي المصالح الأهم والأعلى شأناً والأكثر تأثيراً ومساساً بعقيدة الأمة وكيان الدولة وسمعتها وأمنها واستقرارها، فينبغي ألا تكون حرية التعبير والنشر ذريعة ً للتطاول على الأحكام المستمدة من شريعة الله عز وجل وجعل هذه الأحكام محل سخرية أو انتقاص أو لمز، فيؤدي ذلك إلى تنفير الناس وصدهم عن دين الله واتهام الشريعة بالعيب والنقص أو إعانة أعداء الإسلام وأعداء المملكة بإمدادهم بذرائع للنيل منها والإساءة إليها بأي وجه من الوجوه. وحتى يتضح المقصود من كلامي أورد مثالاً لذلك مما تنظره اللجان الطبية الشرعية المختصة بالمخالفات والأخطاء الطبية الصادرة من الأطباء أو المستشفيات والتي ينتج عنها في كثير من الأحيان حالات وفيات وإعاقة وأضرار صحية بالناس، فهذه القضايا على كثرتها لو تم نشرها بالكامل على الناس لأدى ذلك إلى بث الرعب في نفوسهم والتشكيك في المستشفيات والأطباء، وقد يؤدي إلى إحجام كثير من الناس عن التداوي والذهاب للمستشفيات خوفاً من هذه الأخطاء. وكذلك لو تم نشر كل ما يصدر من أحكام بالرشوة لأدى ذلك إلى تصوير المجتمع الإداري بأنه مجتمع ٌ فاسد بالكامل. ومن ذلك أيضاً بعض الجرائم البشعة التي لو تم النشر عنها لكان لذلك أثر سيئ في إشاعة الفاحشة بين المسلمين وترقيق هذه الفواحش واعتياد الناس سماعها حتى لا تستنكرها وتستبشعها النفوس كما كانت أيام سترها. إذا فليس حق النشر والتعبير حقاً مطلقاً مفلوتاً دون ضوابط، وهذه الضوابط يجب أن تراعي أولاً حدود الله عز وجل وأحكامه الشرعية، ثم ما تقتضيه مصلحة الأمة والدولة. فكم كان لما تناولته الصحف قبل فترة حول مسألة زواج القاصرات والحملة التي شنتها حيال ذلك من أثر سيئ في تشويه صورة الإسلام وأحكام الشرع وتصوير المرأة في المملكة بأنها تتعرض للظلم والقهر وكأن زواج القاصرات أصبح ظاهرة ً يعانيها المجتمع السعودي بينما هي حالات ٌ شاذة كان من الحكمة معالجتها بطرق ٍ لا تتضمن أي بلبلة ولا تشهير. وختاماً أستأذن القارئ الكريم في أن يكون لحديثي معه بقية والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني