اللجنة المصرفية .. ولا يزال الجدل قائما (2 من 2)
يبقى الحديث موصولا عن لجنة تسوية المنازعات المصرفية وطبيعة القرارات الصادرة عنها بعد أن أشرت في الجزء الأول من هذا المقال إلى طبيعة النزاع حولها, وأنه ما زال قائما غير محسوم, وأشرت إلى رأيي الشخصي حول سبب هذا النزاع وأنه يرجع إلى الأمر السامي الذي قضى بإنشاء هذه اللجنة عام 1407هـ وما تضمنه من عبارات وقيود متعارضة الدلالة مضطربة الصياغة, وأن كل واحد من أصحاب الاتجاهين المتعارضين حول هذه اللجنة يستند إلى الأمر السامي نفسه. ثم أشرت إلى أن حسم هذا النزاع والبت في تصحيح وضع اللجنة المصرفية يجب أن يكون بقرار من المنظم بالآلية نفسها التي أنشئت بموجبها أو بآلية إصدار نظام القضاء ونظام ديوان المظالم الجديدين. وفي هذا الصدد أشير إلى أن الآلية التنفيذية لنظام القضاء ونظام ديوان المظالم قد تعرضت لهذه اللجنة مع لجان أخرى مشابهة, وذلك في القسم الثالث (أحكام عامة) الفقرة 2 بما نصه "يقوم المجلس الأعلى للقضاء بعد مباشرته مهماته بإجراء دراسة شاملة لوضع اللجان المستثناة (البنوك, السوق المالية, والقضايا الجمركية) المشار إليها في البند عاشرا من الترتيبات التنظيمية لأجهزة القضاء وفض المنازعات ورفع ما يتم التوصل إليه خلال مدة لا تتجاوز سنة لاستكمال الإجراءات النظامية". وهذا يوضح عناية المنظم بمعالجة وضع هذه اللجنة وأنها لم تعد صالحة للاستمرار على وضعها الحالي نفسه. ولكن يبقى السؤال الأهم, هو: متى سيتم استكمال معالجة وتصحيح هذه اللجنة الذي أنيط بدراسة يجريها المجلس الأعلى للقضاء بعد مباشرته مهماته ثم يصار إلى استكمال الإجراءات النظامية مما يوحي ـ حسب تقديري ـ بمدة طويلة يحكمها الروتين الذي درجت عليه اللجان المشكلة لدراسة نظام أو مشكلة ما؟ ولحين استكمال معالجة وضع هذه اللجان أعتقد وجوب إيجاد حلول مؤقتة تضمن توفير أكبر قدر من الضمانات القضائية للمتنازعين أمام هذه اللجنة. أما الآراء السائدة حول اللجنة المصرفية وطبيعة قراراتها فهي تدور بين رأيين أساسيين: الرأي الأول: أن هذه اللجنة هي المختصة أصلا بنظر النزاعات المصرفية وأن قراراتها تعد أحكاما قضائية ملزمة لها حجية الأمر المقضي فيه وأنه لا يجوز لأي جهة قضائية أن تنظر نزاعا سبق للجنة المصرفية نظره وإصدار قرار بشأنه, كما أن هذه اللجنة هي الجهة الوحيدة المخولة بتقرير توصلها أو عدم توصلها إلى تسوية ودية, وبالتالي فهي وحدها من تملك حق إحالة النزاع إلى القضاء المختص بعد أن تقرر عدم توصلها إلى تسوية مرضية للطرفين. وعلى هذا فليس لأي أحد من طرفي النزاع أن يلجأ إلى جهة قضائية أخرى لعرض النزاع المصرفي عليها, كما أن إلزامية قرارات هذه اللجنة ليست متوقفة على قبول ورضا أطراف النزاع بها. ويأتي في مقدمة أصحاب هذا الاتجاه القائمون على اللجنة المصرفية والمسؤولون في مؤسسة النقد. أما الاتجاه الآخر الذي يعارض كليا هذا الاتجاه, والذي ينادي به كثير من القضاة والحقوقيين والمشتغلين بالفكر القانوني, فيرون أن هذه اللجنة ليست جهة قضائية ولا حتى شبه قضائية ـ على تفاوت بسيط بينهم في هذه الجزئية ـ وأنها مجرد لجنة إدارية أنيط بها إيجاد تسوية ودية يقبل بها طرفا النزاع المصرفي "البنك والعميل". وهذا الرأي هو الذي أخذ به وناصره وقرره الحكم الصادر من الدائرة التجارية الثانية في ديوان المظالم برقم 21 لعام 1429هـ, وهو الحكم الذي نشرته وعلقت عليه بعض الصحف المحلية قبل مدة, ونظرا لما تضمنه هذا الحكم من ملاحظ جديرة بالوقوف عندها وتأملها ولما يتميز به من قوة وصراحة لم يتضمنهما حكم قضائي آخر من قبل ـ حسب علمي ـ فإن من المناسب استعراض أبرز ما جاء فيه من نتائج وما قرره بشأن اللجنة المصرفية محل بحثنا, ولكن قبل الشروع في ذلك أحب التنبيه على ملاحظات يحسن أخذها في الاعتبار عند الاطلاع على ما قرره هذا الحكم وهي: أولا: إن هذا الحكم صادر من الدائرة التجارية الثانية التي كان يرأسها معالي شيخنا إبراهيم الحقيل الذي هو الآن رئيس ديوان المظالم ـ وفقه الله ـ ووجه العناية بذلك أن معاليه يعد خير من يتكلم عن لجنة المنازعات المصرفية, وأن قوله فيها يحظى بالثقل العلمي وبعد النظرة والعمق في الاستنتاج لعدة اعتبارات مهمة جدا, منها أنه كان عضوا في اللجنة المشكلة لدراسة إيجاد طرق للاعتراض على قرارات هذه اللجنة ما جعله ألصق الناس بها علما ودراية وبطبيعة قراراتها, كما أنه كان عضوا في اللجنة التي أعدت مشروع نظام القضاء ونظام ديوان المظالم والآلية التنفيذية لهما. وقبل ذلك فمعالي الشيخ من أقدم القضاة وأكثرهم تخصصا وفهما للقضاء التجاري الذي عمل فيه منذ سنين طويلة ما يجعل البحث الذي انتهى إليه في هذا الحكم خلاصة ذلك كله ومحل اعتبار وثقة. ثانيا: إن هذا الحكم لم يصبح نهائيا إلى الآن وما زال محل نظر هيئة التدقيق التجاري في الديوان. ثالثا: إن هناك أحكاما أخرى صادرة من بعض دوائر الديوان التجارية والإدارية على خلاف ما قرره هذا الحكم ولم يتقرر إلى الآن تقديم بعضها على بعض. بعد ذلك نعود إلى استعراض خلاصة ما انتهى إليه هذا الحكم, حيث قرر عدة أسس مهمة, منها: أولا: إن الأعمال المصرفية أعمال تجارية أصلية تختص الدوائر التجارية في ديوان المظالم بنظرها لأن هذه الدوائر التجارية هي صاحبة الولاية العامة على القضايا التجارية. وإن اللجنة المصرفية ينعقد لها الاختصاص بنظر النزاع المصرفي ابتداء إلا أنها حين تعجز عن التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين فإن هذا الاختصاص يسلب منها ويعود إلى القضاء المختص صاحب الولاية العامة, وذلك بموجب نص المادة السابعة من الأمر الملكي رقم 729/8 لعام 1407هـ, الذي قضى بتشكيل هذه اللجنة. ثانيا: إن اللجنة المصرفية ليست جهة قضائية ولا حتى شبه قضائية بأي حال وليست سوى جهة إدارية بحتة كلفها الأمر الملكي القاضي بإنشائها بدراسة النزاع بين البنك والعميل في ضوء الاتفاقيات المبرمة بينهما وبغرض التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين, فإن توصلت إلى هذه التسوية فعلا فقد انتهى النزاع بين الطرفين وإلا فعليها أن تقرر عدم توصلها إلى هذه التسوية ويحال النزاع إلى المحكمة المختصة للبت فيه. ثالثا: إن عدم التزام اللجنة بهذا الأمر لا يسلب القضاء المختص اختصاصه, وإن ما دأبت عليه اللجنة المصرفية من استعمال كلمة (التسوية) في قراراتها التي لا تتضمن أي تسوية مرضية للطرفين لا يغير من الحقيقة شيئا ولا يجعل التسوية المعدومة موجودة ولا يسلب المتنازعين حقهم في اللجوء إلى القضاء. وعلى هذا, فإن ولاية هذه اللجنة ترتبط وجودا وعدما بمضمون القرار الذي سيصدر عنها والداخل في اختصاصها ابتداء, فإن قضى بتسوية حقيقية مرضية للطرفين فعلا فإنه يكون صادرا عن جهة ذات ولاية ويكتسب الحجية ويصبح ملزما للطرفين. أما إن كان غير ذلك بحيث لم يتضمن تسوية حقيقية مرضية للطرفين, فإن هذه القرارات لا تكون صحيحة ولا ترقى إلى أن تكسب الدرجة القطعية ولا تمنع المتضرر منها أو الرافض لها من اللجوء إلى القضاء المختص, بل إن مثل هذه القرارات تكون معدومة لأنها صدرت عن جهة لا ولاية لها في إصدارها. رابعا: إنه عند عدم قبول أحد الطرفين التسوية التي قررتها اللجنة ولجوء هذا الطرف إلى القضاء المختص, وهو الدوائر التجارية في ديوان المظالم, فإن هذه الدوائر التجارية تنظر الدعوى على أنها دعوة مبتدأة بكل ما في هذه الكلمة من معنى, ولا يعد نظرها الدعوى اعتراضا من الاعتراضات المنصوص عليها في المادة التاسعة من نظام ديوان المظالم الصادر عام 1402هـ ولا طريقة من طرق الطعن العادية أو الاستثنائية. خامسا: قرر الحكم أيضا في إحدى نتائجه المهمة أن الأمر الملكي رقم 729/8 لعام 1407هـ لم ينص على قصر حق إحالة النزاع إلى المحكمة المختصة ـ عند عدم التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين ـ على اللجنة وحدها وإنما جاءت العبارة فيه عامة وعلى هذا فإنه من الممكن إحالة النزاع إلى القضاء من اللجنة أو من أحد أطراف النزاع أو من كليهما عند عدم التوصل إلى تسوية مرضية لهما. سادسا: ورد في وقائع الحكم الإشارة إلى أثر من الآثار العملية المترتبة على النزاع حول طبيعة قرارات هذه اللجنة, حيث تضمن أنه سبق أن نشر في صحيفة "الأهرام الاقتصادي" المصرية في عددها الصادر في 21/3/1426هـ الموافق 29/5/2005, أن البنك السعودي الأمريكي كان قد حصل على قرار من اللجنة المصرفية يلزم شركتين إحداهما سعودية والأخرى مصرية بالتكافل بأن تسددا له مبلغ ثلاثة ملايين و122 ألف ريال سعودي, وأراد البنك أن ينفذ هذا القرار على أموال الشركة المصرية فطلب من القضاء المصري إكساب قرار اللجنة المصرفية صيغة التنفيذ استنادا إلى اتفاقية تنفيذ الأحكام الأجنبية المبرمة في إطار جامعة الدول العربية. وبعد عدة جلسات أصدرت محكمة استئناف القاهرة حكمها برفض تذييل هذا القرار بصيغة التنفيذ معللة ذلك بأن اتفاقية تنفيذ الأحكام الأجنبية تختص بالأحكام النهائية الصادرة عن هيئات قضائية في إحدى الدول العربية وأن يكون الحكم حائزا على قوة الشيء المحكوم به, وأنه قد تبين لها من فحص القرار المطلوب تنفيذه أنه صدر عن لجنة إدارية متخصصة وأن قراراتها لا تكون ملزمة إلا في حال رضا الطرفين بها. سابعا: كما أن الحكم قرر أنه عند حصول موافقة المقام السامي على نظر النزاع بين البنك والعميل أمام اللجنة المصرفية فإنه عندما تعجز هذه اللجنة عن التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين فلا يكون الطرف المعترض على قرار اللجنة ملزما بالحصول على موافقة جديدة من المقام السامي لسماع الدعوى أمام القضاء التجاري المختص، لأن المادة السابعة من الأمر الملكي المذكور قضت أن يحال النزاع إلى المحكمة المختصة للبت فيه، بعد فشل اللجنة في التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين دون أن تشترط الحصول على موافقة ثانية من المقام السامي، والأصل أن اشتراط الموافقة على سماع هذا النوع من الدعاوى حالة استثنائية لا يجوز التوسع فيها أو القياس عليها. هذه خلاصة ما قرره الحكم من نتائج مع التأكيد على أنه غير نهائي، إلا أنه كما أشرت يمثل الرأي الذي يميل إليه غالب المختصين من قضاة وحقوقيين وهو حسبما يظهر المتوافق مع التفسير السليم لنصوص الأمر السامي. كما أن الرأي الآخر إنما يستند إلى الواقع العملي الذي تمارسه اللجنة المصرفية، الذي يتضح منه خرق عدة أسس للعدالة. ولا أجد أمامي بعد ذلك إلا ختم هذا الموضوع، رغم أنه بقي لدي الكثير مما يقال حوله، لكني أجده قد طال كثيرا، ولعل فيما تم إيراده ما يكفي، وحقيقة الأمر فإنه مهما قيل عن هذه اللجنة المصرفية، إلا أن ما يتفق عليه الجميع أنه لا يجوز مطلقا استمرار بقائها عائقا أمام المتنازعين في النزاعات المصرفية تمنعهم من حقهم الشرعي والنظامي في اللجوء إلى القضاء المختص، الذي يتوافر فيه مقومات القضاء وضماناته كافة، وبغير ذلك يبقى هذا المجال من النزاعات نشازا بين أنظمة القضاء الصادرة حديثا، والسلام.