النقد في زمن الحرب

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

حينما تمر الدول بالأزمات الخارجية التي تهدد أمنها واستقرارها، وتعرّض وحدتها للخطر، كالحروب، أو الأزمات الداخلية كالاضطرابات والأعمال الإرهابية التي تستهدف كل مظاهر البناء والتنمية، بل حتى تستهدف الأرواح والدماء والأعراض والأموال؛ فإن الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام يجب أن يكون منسجماً مع مثل هذه الأخطار والأحداث الجسام.

وإذا كان من أهم الأدوار التي يقوم بها الإعلام على اختلاف أنواعه(صحافة وإذاعة وتلفزيوناً وغيرها) أنه يُقدّم النقد الهادف الموضوعي الذي يساهم في البناء والتصحيح والارتقاء بالعمل؛ فإن مما يجب تفهمّه وإدراكه جيداً لكل من يمارس النقد في وسائل الإعلام، ولكل صاحب قلم يتابعه القراء، أو صوت يستمع له المشاهدون والمستمعون، أن لكل مقام مقالاً، وأن لغته وأسلوبه وحدود طرحه الإعلامي الناقد يجب أن تراعي المرحلة التي يعيشها، والظروف التي يقدّم نقده فيها.

بل حتى الأهداف والغايات التي يسعى إليها الإعلامي الناقد، ينبغي أن تراعي ما تعيشه الدولة من أزمات أو حروب أو اضطرابات. فالنقد الإعلامي الذي كان يقتصر في أهدافه على تصحيح خطأ أو تقويم أداء ٍ لجهة حكومية خدمية، ينبغي أن يستحضر جيداً وهو يمارس هذا النقد في زمن الحرب، أهدافاً أخرى أكثر أهمية وأولى بالمراعاة والسعي لتحقيقها من الهدف الجزئي الذي قد يكون تافهاً أمام أمن الوطن واستقراره ووحدة صفّ أبنائه، وتحفيز انتمائهم ووطنيتهم وولائهم.

ولا يعني كلامي هذا الدعوة إلى توقف النقد أو تأجيله إلى إشعار آخر، أو أن تتحول كل الأقلام والأصوات الإعلامية والتوعوية إلى آلة للحرب أو التجييش الأمني؛ إنما المقصود أن تنضبط هذه الأقلام والأصوات بمعيار الموازنة الدقيقة والحكيمة بين الأهداف الإصلاحية الجزئية، والهدف السامي الكبير المتمثل في وحدة وتماسك الوطن أمام الأخطار والاضطرابات التي باتت تهدده بشكل جدي.

فلا يجوز أن يعلو صوت النقد بطريقة توحي إلى المتلقي أن هذا الناقد يعيش خارج أسوار الوطن، أو أنه لا يدري بما يجري أو لا يقيم له وزناً.

كما لا يجوز أن يغرق الناقد في نقده وفي حدة عباراته، حتى يؤدي به ذلك إلى إفساد أكثر مما كان يأمل إصلاحه.

والأهم من ذلك كله أن يدرك الناقد الإعلامي جيداً أنه في زمن الحرب والاضطرابات يكثر المصطادون في الماء العكر، ويمكن أن تصبح لغته الناقدة رصاصة موجهة من العدو الخارجي أو الداخلي إلى الوطن.

وإذا كان النقد الهادف البناء وطنياً مخلصاً صادقاً في أهدافه، فإنه ولا شك ليس بحاجة إلى من يذكّره بهذه المفاهيم الأساسية، التي يستحضرها المواطن المخلص بفطرة حبه لوطنه وانشغاله بأمره.

ومن جانب آخر وحتى لا يُفهم من حديثي أنه دعوة إلى تهميش النقد الهادف في زمن الحرب والأزمات، فإني أؤكد على حقيقة يجب على كل من يهتم بأمر الوطن أن يدركها جيداً، خاصة من المسؤولين الحكوميين على اختلاف وتنوع ميادين مسؤوليتهم؛ ألا وهي أن أعظم سلاح يمكن أن ينتصر به الوطن على أعدائه هو (العدل) فإن الظلم بلا شك هو مقوّض الأركان وهادم الأوطان.

ومتى ما استحضرنا جميعاً هاتين الحقيقتين (أن النقد في زمن الحرب يجب أن يراعي ظروفها) و (أن العدل أعظم سلاح ٍ تنتصر به الدولة على أعدائها) فلا شك أننا نكون – بإذن الله – أكثر قرباً إلى الأمن والسلام والاستقرار.

فالناقد يرفع مستوى حرصه واهتمامه وإدراكه في لغته النقدية، ويراعي جمع الكلمة ووحدة الصف وتحفيز الانتماء الوطني للمواطنين.

والمسؤول يحذر من ظلم الناس وبخس حقوقهم والتقصير في الأداء بطريقة توجد بين المواطن ودولته فجوة لا تتناسب مع مرحلة الحرب أو الاضطراب أو الخطر.

إن المواطن هو اللبنة الأولى والأساس، وهو رجل الأمن والدفاع الأول عن تراب وطنه وأمنه واستقراره، فيجب التعامل مع المواطن على هذا الأساس، ويجب أن تكون الطاقات لكل الجهات الحكومية والإدارية الخدمية وغير الخدمية، موجهة لتحقيق هذا الغرض، الذي وإن كانت موجودة في الأصل لتحقيقه؛ إلا أنها في أوقات الحرب والاضطرابات والمخاطر، تصبح مطالبة به بشكل أكبر، لأن اللوم عليها سيكون أكبر، ولأن المرحلة ليست مناسبة للتقصير أو التخاذل أو الظلم.

وإذا كانت الجهات الحكومية المسؤولة عن الأمن والدفاع واقفة على صف المواجهة الأول، وتضحي بدماء وأرواح منسوبيها، فإن الجهات الحكومية الإدارية والخدمية لا يليق بها أن تكون في الصف الأخير بعيداً عن التضحية والعمل والتفاني ورفع مستوى الأداء بما يليق بمتطلبات هذه المرحلة.

فكل خطأ أو ظلم يقع على المواطن في زمن الحرب أو الاضطرابات والمخاطر، يجب أن تتضاعف عقوبته والمؤاخذة عليه عن سائر الأوقات.

ولعل أصدق شاهد على هذه الحقيقة، وأكبر دليل على إيمان خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – بها واستحضاره لها - وكما هي عادته أيضا في أي وقت - قراره الحكيم بإعفاء وزير الصحة مؤخراً، بناء على المشهد المصور الذي ظهر فيه يرفع صوته على المواطن ويخاطبه بلهجة لا يقبلها ولاة الأمر – أيدهم الله – على أبنائهم المواطنين.

أسأل الله تعالى أن يحفظ وطننا عزيزاً شامخاً، وأن يديم علينا نعمة الأمن والرخاء والاستقرار، وأن يكبت عدونا ويدحر من أراد بنا سوءاً آمين.

والحمد لله رب العالمين.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني