بعد منع القضاة من الإعلام.. من يحمي القضاة من الإعلام ؟
عندما صدر الأمر الملكي الكريم رقم أ/93 في 25/5/1432ه بتعديل بعض مواد نظام المطبوعات والنشر، كان مما تضمنه ذلك الأمر الكريم في ديباجته ما نصّه : " وانطلاقاً من هدي شرعنا المطهر بحفظ الكلمة وصيانتها وتحمل مسؤوليتها والتحذير من خطورتها على الفرد والجماعة، ولما لاحظناه على بعض وسائل الإعلام من التساهل في هذا الأمر بالإساءة أو النقد الشخصي سواء لعلمائنا الأفاضل المشمولين بأمرنا رقم (أ/71) بتاريخ 13/4/1432ه أو غيرهم ممن حفظت الشريعة لهم كرامتهم وحرّمت أعراضهم من رجال الدولة أو أي من موظفيها أو غيرهم من المواطنين مستصحبين في هذا أن اختلاف الآراء وتنوع الاجتهادات مصدر إثراء يضاف لرصيدنا العلمي وأفقنا المعرفي على ضوء ما أرشد إليه سلفنا الصالح من اعتبار الاختلاف العلمي الرصين من سعة الشريعة ورحمتها بالأمة وأن الرجال يعرفون بالحق والحق لا يعرف بالرجال، مع إدراكنا لحقيقة النقد البناء الذي لا يستهدف الأشخاص والتنقص من أقدارهم أو الإساءة إليهم تصريحاً أو تلويحاً فالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تتجلى في وجدان كل مخلص صادق لا ينشد إلا الحق بدليله ويسمو بنفسه عن كلمة السوء وتبعاتها في الدين والدنيا فحرية الرأي المنضبطة والمسؤولة التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام محل اعتبارنا وتقديرنا " .
كنا نتحدث بالأمس عن العلاقة بين الإعلام والقضاء، وعقدت وزارة العدل قبل سنوات ملتقى يناقش أطر هذه العلاقة، وكان ذلك قبل منع القضاة من المشاركات الإعلامية، أما وقد تم منعهم من ذلك، فإن من أبسط حقوقهم أن يُمنع الإعلام من الإساءة إلى سمعة القضاء والقضاة بأي صورة كانت.
ومن خلال هذا النص الواضح الجلي، يتأكد أن النقد أو الحرية الإعلامية له حدود يُحظر تجاوزها، وهي أن يتعدى ذلك النقد أو الحرية الإعلامية إلى التجريح أو الإساءة لكرامة أو أعراض رجال الدولة أو موظفيها، تصريحاً أو تلويحا، وكذلك وجوب مراعاة الصالح العام ومصلحة الأمة، والابتعاد عن كل ما يسيء إلى دينها أو أمنها أو استقرارها أو (هيبة قضائها واستقلاله) .
وقد أكد الأمر الملكي الكريم المشار إليه وقوع حالات تجاوز لهذه الضوابط، ونظّم مسألة تطبيق العقوبات والرقابة على التزام وسائل الإعلام بما ورد من ضوابط في نصوص النظام.
وفي مقال سابق لي بعنوان (هيبة القضاء في خطر) كتبته قبل عدة سنوات، أشرت إلى خطورة ما قد يحدث من تجاوزات في التناول الإعلامي تسيء إلى مرفق القضاء، وتشوه صورته في أذهان الناس، وتؤدي إلى فقدان الثقة في أحكام القضاء والطمأنينة إليها.
وفي وقت كتابة ذلك المقال، لم تكن المشاركات الإعلامية محظورة على القضاة، وكان بإمكانهم التواصل مع المجتمع والدفاع عن أنفسهم وقضاياهم، وإيصال وجهة نظرهم للناس. ثم أصبحت مسؤولية ذلك تقع على المتحدثين الرسميين والإدارات الإعلامية في كل من وزارة العدل وديوان المظالم، بعد منع القضاة من المشاركات الإعلامية.
ومما يؤسف له كثيراً أن بعض وسائل الإعلام في ظل بحثها عن السبق الإعلامي والأخبار ذات الطابع المثير، أصبحت تتجاوز كثيراً الضوابط الواجب الالتزام بها في نقل أخبار القضاء، وما يدور داخل أروقته من تفاصيل الدعاوى وإجراءات المحاكم، دون تفريق بين ما يصح وما لا يصح، ودون التقيد بالتعليمات الواضحة التي تحظر النشر في وقائع المحاكمات والدعاوى دون إذن من المحكمة المختصة.
كما أن بعض التغطيات الإعلامية لهذه الوقائع أصبحت تصاغ بأسلوب يحمل الناس على التشكيك في القضاة أو انتقاصهم أو التعميم في الحكم على التجاوزات التي تحدث من بعضهم، بحيث تنطلق عبارات التجريح والتشويه في التعليقات التي تصاحب هذه الأخبار.
إن مثل هذه التجاوزات الإعلامية الخطيرة، ما قد يقود إلى كارثة لا تحمد عواقبها، على هيبة القضاء واحترام الناس له وانصياعهم لأحكامه. وإن لها آثاراً غير حميدة على نفوس القضاة الذين أصبح الكثير من الناس ينظر إليهم نظرة الشك والاتهام، والتنقص والازدراء، وأصبح الكثير من القضاة يعملون في ظل ضغوط نفسية ليس من السهل احتمالها، اجتمع عليهم نقص الكوادر الإدارية المساعدة من أعوان القضاة، وضعف تجهيزات كثير من مباني المحاكم، والخلل في التنظيم، وانعدام الحوافز والمزايا المالية، من سكن أو علاج أو رواتب مجزية، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى وقوع بعض التجاوزات في الأخبار الإعلامية التي تجعل سُمعة القضاة وسيرتهم كلأً مباحاً تلوكها الألسن، وتستطيل في الإساءة إليها العبارات.
ولقد كنا نتحدث بالأمس عن العلاقة بين الإعلام والقضاء، وعقدت وزارة العدل قبل سنوات ملتقى يناقش أطر هذه العلاقة، وكان ذلك قبل منع القضاة من المشاركات الإعلامية، أما وقد تم منعهم من ذلك، فإن من أبسط حقوقهم أن يُمنع الإعلام من الإساءة إلى سمعة القضاء والقضاة بأي صورة كانت.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه..