بقدر السلطة تكون المسؤولية

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

من الجرائم الإدارية المرتبطة بالوظيفة العامة، جريمة (إساءة استعمال السلطة) ويُقصد بالسلطة هنا: الحق المكتسب من الوظيفة لممارسة العمل. أو بمعنى آخر هي : الصلاحيات والامتيازات الممنوحة للموظف العام لمباشرة مهام وظيفته.

وهذه السلطة أو الصلاحيات لم تُمنح للموظف إلا لتمكينه من تحقيق أهداف الوظيفة، وغايات الإدارة التي يعمل فيها، والتي لا تخرج في عمومها عن خدمة الناس، وتنظيم وتيسير مصالحهم.

وكلما كان الموظف أعلى رتبة في سلم الوظيفة العامة، كانت سلطته وصلاحياته بقدر ما تتطلبه درجته الوظيفية، وموقعه في الهرم الوظيفي.

ولأنه كلما علتْ مرتبة الموظف العام، اتسع نطاق سلطته وصلاحياته، فقد جعل نظام الخدمة المدنية شغل وظائف المرتبة الثالثة عشرة فما فوقها، تكون بآلية خاصة تختلف عما دونها من المراتب، بحيث يكون الأساس فيها هو الترشيح والاختيار المبني على الثقة والتزكية للموظف، ولا تكون حقاً مكتسباً يُنال بالمدة والتدرج في المراتب.

وهذه السلطة المرتبطة بالوظيفة، تعتبر قسيمة للمسؤولية، وسبباً من أسبابها؛ لأنه لا مسؤولية على أحد في أمر لا سلطة له فيه.

وإذا كان نظام الخدمة المدنية قد نصّ في المادة (12) فقرة (أ) منه، على أنه يُحظرُ على الموظف خاصة إساءة استعمال السلطة الوظيفية ؛ فإن القاعدة العادلة في تطبيق هذا الحظر، أنه بقدر السلطة تكون المسؤولية، فكلما ارتفع سقف السلطة، يجب أن يماثله ارتفاع سقف المسؤولية.

وقد نصّت المادة (32) من نظام تأديب الموظفين على أنه : يراعى في توقيع العقوبة التأديبية أن يكون اختيار العقوبة متناسباً مع درجة المخالفة مع اعتبار السوابق والظروف المخففة والمشددة الملابسة للمخالفة وذلك في حدود العقوبات المقررة في هذا النظام.

وإن من أهم الظروف المشددة للعقوبة في جريمة إساءة استعمال السلطة، أن يكون مرتكب هذه الجريمة على رتبة عالية وظيفياً، وقد مُنحتْ له سلطة أعلى من الموظف العادي، ما يجعل إساءة استعماله لها أشد ضرراً، وأكثر قبحاً من الموظف البسيط ذي السلطة المحدودة.

إلا أنه ومن خلال خبرتي المتواضعة في القضاء التأديبي الذي عملت فيه جزءاً من خدمتي القضائية، ومن خلال ما تتبعته أيضاً من أخبار المحاكمات في القضايا التي يتناولها الإعلام، لاحظتُ أن هناك تراخياً في تطبيق هذه القاعدة، سواء بسبب قلة ما يحال للقضاء من مسؤولين مقارنة بأعداد الموظفين العاديين، أو بسبب ضعف العقوبات التي يحكم بها على من يحال من المسؤولين للقضاء.

وإذا ما سمعنا حديث الناس وما هو منطبع في أذهانهم دوماً، نجدهم كثيراً ما يُشكّكون في قدرة يد الرقابة والمحاسبة على الوصول إلى ذوي المراتب العالية أو المراكز المرموقة من الموظفين شاغلي المراتب العليا. وهذا الانطباع العام عند الناس لم يأت من فراغ، إنما هو وليد التجارب والشواهد الكثيرة عندهم، وعندي من ذلك العديد من الأمثلة التي تبدأ فيها التحقيقات بعدد كبير من الموظفين مختلفي المراتب والرتب، ثم تنتهي الإدانة إلى الأقل مرتبة منهم، وتبرئة ذوي المراتب العالية.

ومع بزوغ عهد هيئة مكافحة الفساد، بدأت مرحلة جديدة بعثت الأمل في نفوس الناس، خاصة مع ما أظهرته الهيئة من مساحة عالية من القوة، والشفافية، والتركيز على مواطن الفساد الأكثر إضراراً بالصالح العام، ما جعل الناس – وأنا منهم – يتفاءلون كثيراً بأن تكون عين الرقابة والمحاسبة حاسمة حازمة مع الكبير قبل الصغير، وأن تبدأ رقابتها من أعلى السُلم لا من أسفله . فإن في كشف فساد موظف أو مسؤول كبير واحد، ردعاً لكل من تحت يده من موظفين.

إن إعادة الثقة لدى الناس في هذه المسألة، وإقناعهم أنه (كلما زادت السلطة زادت المسؤولية) تتطلب جهداً كبيراً وشجاعاً من الجهات ذات العلاقة.

وإن المبدأ الذي أشاعه خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – وأكد عليه مراراً في أوامره السامية، بأن المحاسبة والرقابة يجب أن تتسعا لتشملا (كائناً من كان) يجب أن يراه الناس واقعاً مشاهدا..

يجب أن نتتبع بعين فاحصة جميع الجرائم والمخالفات وصور الفساد التي تكون مرتبطة دوماً بالمراكز الوظيفية العليا، من استغلال السلطة والنفوذ في الإثراء على حساب الوظيفة، أو احتكار الوظائف والفرص لتكون للأقارب والأصدقاء وحرمان الآخرين الأكفاء والأحق بها.

أو استعمال السلطة للحيلولة دون تطبيق الأنظمة تطبيقاً صحيحاً بالتحايل عليها، أو التلكؤ في تنفيذ الأحكام القضائية، أو التصرفات الكيدية ضد الموظف أو المواطن الذي يلجأ للقضاء للمطالبة بحقوقه عند الجهة الحكومية، فيأخذ المسؤول هذه الدعوى مأخذاً شخصياً ويبدأ في الكيد والتربص لصاحب الدعوى للإضرار به.

إلى غير ذلك الكثير من الممارسات الفاسدة القبيحة التي يجب أن يكون القضاء عليها وردع مرتكبيها من أولى أولوياتنا.

إننا يجب أن نسعى لحماية وطننا الغالي الكبير من أي ثغرة من ثغرات الفساد أو الظلم التي لا يقف الضرر فيها على المتضرر المباشر منها، بل يتعداه إلى كيان وجدار الوطن العالي فينخر فيه.

حمى الله بلادنا من كل سوء، وأعان كل مصلح فيها على الإصلاح.. والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني