بين العدالة البطيئة أو الظلم الناجز

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

بعد زمن طويل كانت فيه شكاوى مراجعي المحاكم تتمحور حول التأخر في إصدار الأحكام القضائية، والبطء في إنجاز القضايا، أصبحت الجهود الإصلاحية المبذولة مؤخراً في مرفق القضاء تضع مسألة سرعة إنجاز القضايا هي أولى أولوياتها.

وقد بذلت الجهات القضائية في وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء وفي ديوان المظالم العديد من الإجراءات والخطوات، وأصدرت الكثير من التوجيهات، التي تصب كلها في هذا الاتجاه.

كما أصبح التأخر في إنجاز القضية مسألة تُعرّض القاضي للمساءلة في بعض الأحيان، ويؤخذ بها في الاعتبار عند التفتيش القضائي على أعمال القاضي، وفي تقييمه لأغراض الترقية.

وفي ديوان المظالم – وهو ما سبق لي الإشادة به في حينه – أحدث رئيس ديوان المظالم الشيخ عبدالعزيز النصار إدارة فريدة في اختصاصها، ينحصر دورها في تقديم الدعم والعون للدوائر القضائية والقضاة لتجاوز ما يواجههم من عوائق تحول دون سرعة إنجاز القضايا، كما أصدر أيضاً العديد من القرارات غير المسبوقة التي عالجت كثيراً من أوجه القصور والخلل التي كانت سائدة في السابق وتسهم في تعطل القضايا وبطء إنجازها.

وما من شكّ أن كل هذه الإنجازات التي قامت بها القيادات القضائية محلّ الثناء والإشادة، وقد لمس نتائجها كل مراجعي المحاكم على اختلاف أنواعها، وتم إنجاز العديد من القضايا القديمة التي كانت تراوح مكانها سنوات طوال دون أي تقدم.

كما أنه لا يجادل أحد أن العدالة الناجزة من أسمى غايات القضاء، وأهم الأهداف التي ينبغي له أن يسعى لتحقيقها، كما أنها في ذات الوقت تعتبر معياراً مهماً يمكن من خلاله تقييم مستوى أداء المحاكم، ومدى نجاحها في القيام بدورها وتحقيق الغاية المنشودة منها، في حفظ الحقوق، وردع العابثين بها والمماطلين.

إلا أن هناك إشكالية حقيقية بدأتُ ألمسها في أداء بعض المحاكم، ومن خلال عدة أحكام قضائية صدرت، كما أنه صرّح لي بالشكوى منها بعض القضاة؛ ألا وهي التركيز الشديد على سرعة إنجاز القضايا وإصدار الحكم فيها، ولو على حساب جودة الأحكام القضائية، وسلامة النتيجة التي تنتهي إليها.

كما أصبح الضغط الذي يقع تحته القاضي والذي يطالبه بسرعة الحكم في القضية، ويسأله عن كمية الأحكام التي أصدرها خلال الشهر الواحد، أو السنة الواحدة، وعدم التفريق بين القضية المعقدة التي تتطلب مدة كافية لدراستها، وبحثها، وتأملها، وبين القضايا الأخرى الأقل تعقيداً، أصبح ذلك أمراً ملحوظاً، وظهر أثره جلياً في مستوى جودة الأحكام.

وحقيقة فإن هذه إشكالية صعبة للغاية، وهي من المسائل التي تتطلب للتعامل معها الكثير من الحكمة والفهم والاستيعاب لحقيقة وطبيعة الواقع القضائي، وللظروف التي تشهدها المحاكم، خاصة في هذه المرحلة الانتقالية، بما اتسمت به من كثرة حركة تنقلات القضاة وترقياتهم، وتعاقب العديد من القضاة على المكتب القضائي، أو الدائرة القضائية الواحدة.

وبالتالي فإني أخشى ولخشيتي هذه ما يبررها ويشهد لها من الواقع، أن يحملنا الحرص الشديد على سرعة الإنجاز، والمحاسبة الدقيقة للقضاة عن أي تأخر ولو كان يسيراً، إلى تهاون بعضهم في إصدار الأحكام القضائية قبل اكتمال تصوره للقضية، ودون أن يمنحها الجهد والوقت الكافي للتثبت فيها وتحقيق إجراءاتها، واستكمال ما يلزم للفصل فيها، ثم بدل أن نحقق الغاية المنشودة في (العدالة الناجزة) نكون وقعنا في أحد إشكالين:

إما أن تكون تلك الأحكام غير ملاقية للحق ولا موافقة للاجتهاد الصحيح، وتشتمل على أخطاء أو خلل قد يصادف ألا يتنبه له قضاة محكمة الاستئناف فتتم المصادقة على الحكم، ونكون وقعنا في (ظلم ناجز) بدل (عدالة ناجزة).

وإما أن تتنبه محكمة الاستئناف لما اشتمل عليه الحكم من خلل أو قصور فتقضي بإعادته إلى القاضي الذي أصدره لاستكمال هذا القصور، وبالتالي فتكون القضية استغرقت وقتاً أطول، مما لو كان القاضي فيها يملك الوقت الكافي للاستيعاب والتثبت.

إن العدالة الناجزة كأهم وأسمى غايات القضاء، لا يمكن لها أن تتحقق إلا بتوافر كامل عناصرها، وليس من أهم عناصرها الضغط على القضاة ليتعجلوا في إصدار أحكامهم، ولكن بتوفير العوامل المساندة لهم على تحقيق ذلك.

وفي هذا السياق فإن من أهم المسائل التي ينبغي مراعاتها، ولها أبلغ التأثير على سرعة أو بطء الفصل في القضايا، ما يلي:

أولاً: أنه لا ينبغي تجاهل تأثير طبيعة هذه المرحلة التي يمرّ بها القضاء السعودي، وما يشهده من نقلة تاريخية كبيرة وغير مسبوقة، من حيث إحداث المحاكم المتخصصة، وكثرة افتتاح فروع محاكم الاستئناف، والزيادة الكبيرة جداً في تعيين القضاة بأعداد كبيرة، وهو ما جعل الغالب من محاكم الدرجة الأولى تدار بواسطة قضاة حديثي العهد بالقضاء، ولم يأخذوا المدة الكافية من الخبرة والدراية. وهو ما يجعل العبء ثقيلاً على القيادات القضائية في تكثيف الدورات التدريبية لهم، وتلمس جوانب الضعف أو القصور في كل قاض وإعانته على معالجته من خلال التأهيل العلمي والإلحاق بالدورات المتخصصة بالجانب الذي يكون فيه ضعيفاً.

ثانياً: انه وكما سبق لي مراراً المطالبة، بتوفير أعوان أكفاء للقضاة، من مستشارين وباحثين، وإداريين مؤهلين، علاوة على إعادة النظر في مزايا القضاة المادية، وتوفير الحوافز لهم، فكل ذلك مما له أبلغ الأثر في الإنجاز.

ثالثاً: يجب الحذر كل الحذر من أن يكون تركيز الإدارات المختصة بالتفتيش القضائي والرقابة والمتابعة، متركزاً على (الكم) على حساب (الكيف) فليس العبرة بعدد الأحكام التي أنجزها القاضي، بل بما تحويه تلك الأحكام وتتصف به من جودة أو ضعف.

رابعاً: ينبغي أن يكون هناك آلية واضحة وفاعلة، لمساعدة القاضي على تجاوز الصعوبة والعقبات التي تواجهه في بعض القضايا ذات التعقيد غير المعتاد، فبعض القضايا المعقدة ما من شك أن إصدار حكم سليم فيها، يعادل إصدار عشرة أحكام أو أكثر في غيرها من القضايا اليسيرة. كما أن بعض القضايا يكون فيها من التعقيد والغموض والتشابك والتشابه، ما يفوق إمكانات وقدرات قاض واحد ذي خبرة عادية، فهنا يمكن أن يتولى مجلس القضاء تكليف قاض آخر أو عدة قضاة لتقديم المساعدة للقاضي ناظر هذه الدعوى المعقدة.

خامساً: إن أهمية هذه القضية تنبثق من أهمية العدل، وخطورتها مرتبطة بخطورة الظلم، وحقوق الناس مصانة في الشريعة وفي نظام الدولة، فينبغي اتخاذ كل ما من شأنه حمايتها وحفظها، وعدم التهاون في ذلك من خلال التعجل في إصدار الأحكام قبل الوصول إلى مرحلة التصور التام للدعوى. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وختاماً أسأل الله أن يوفق القائمين على القضاء إلى الالتفات لهذه القضية الشائكة، وإنزالها منزلتها اللائقة بها من الأهمية والعناية، والسعي الجاد لمعالجتها.

والحمد لله أولاً وآخراً

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني