جرائم النصب والاحتيال والحاجة إلى نظام يعالجها

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

ولئن كانت أعمال الغش والتزوير والاختلاس ونحوها كلها يمكن أن تدخل في عموم جرائم النصب والاحتيال، إلا أن المقصود الأخص بهذه الجريمة هو المتمثل في: استعمال الجاني وسائل احتيالية، أقوالاً كانت أو أفعالاً، لحمل المجني عليه على الغلط، والتصديق وتسليم ماله لهذا المحتال.
منذ مدة طويلة كان من المواضيع التي تشغل بالي كثيراً، قضايا وأفعال النصب والاحتيال، تلك الجرائم التي تعد من أكثر المواضيع شغلاً لحديث الناس ووسائل الإعلام والمختصين من القانونيين، إلا أنها مع كثرة الحديث عنها، وكثرة ما يُبتلى به الناس في تعاملاتهم، وحياتهم اليومية، تبقى هذه الجرائم من دون وجود نظام خاص بها، يضبط أحكامها، ويحدد معالم الأفعال ومعاييرها المندرجة تحتها، ويضع لها العقوبات التي تكفي لردعها، ويجمع صورها المشتتة المتفرقة تحت مظلة نظام واحد، وجهة تحقيق ومحاكمة واحدة.
وكنت أنوي الكتابة عن جريمة النصب والاحتيال في عالم التجارة والأعمال، وأثرها السيئ جداً في اقتصاد البلد، إلا أنني تأملت مدى الضرر العظيم الذي يعانيه الناس من جرائم النصب والاحتيال في الأنشطة والمجالات كافة، ورأيت أنها لا تقل أثراً سيئاً عن أثرها في ميدان التجارة والاستثمار. ولو لم يكن من ضرر هذه الجريمة إلا أنها تزعزع الثقة في الأنظمة والقوانين، وتبعث على الإحباط والشعور بسيطرة الفساد في المجتمع، وتفكيك أواصر الألفة والمحبة وروابطها بين أفراد المجتمع الواحد، لكان في هذه الأضرار ما يكفي للاهتمام بمواجهة هذه الجرائم والعناية بوسائل القضاء عليها.
أما في مجال التجارة والاستثمار فيكفي أن نعرف أن التجارة إنما تقوم على أساس الثقة والسرعة والائتمان، ما يجعل جرائم النصب والاحتيال فيها، تضرب هذا الأساس وتصيبه بالشلل أو الموت.
وإن مما يؤسف له كثيراً ويجعل الحاجة أشد، والضرورة أكثر إلحاحاً لوجود نظام مفصل رادع لهذه الجرائم، أن الحلقة الأكثر ضعفاً من ضحاياها، هم الأفراد والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، أما القطاعات الكبرى كالبنوك والشركات الكبيرة، فهي غالباً ما تكون أقل تضرراً من هذه الجرائم.
ولئن كانت أعمال الغش والتزوير والاختلاس ونحوها كلها يمكن أن تدخل في عموم جرائم النصب والاحتيال، إلا أن المقصود الأخص بهذه الجريمة هو المتمثل في: استعمال الجاني وسائل احتيالية، أقوالاً كانت أو أفعالاً، لحمل المجني عليه على الغلط، والتصديق وتسليم ماله لهذا المحتال. وهي بهذا الوصف تصيب سلامة المجني عليه وإرادته، وتقضي على مبدأ حسن النية في التعاملات.
ولا يخفى أن التطور التكنولوجي والتقني الهائل في العالم، أحدث معه وسائل متطورة وصوراً أكثر تعقيداً لهذه الجرائم الخطيرة القذرة، ما يعني أن الجهود البسيطة، والإمكانات المتواضعة، والنصوص القانونية المتفرقة الجزئية هنا وهناك، لم تعد كافية لحماية الناس من خطر جرائم النصب والاحتيال.
ولا يمكن أبداً أن تنمو روح المنافسة الشريفة، ولا ممارسات الكسب المشروع، في أرواح الشباب المحبين الراغبين في دخول التجارة، وهم يرون أن الغلبة ليست للأكثر صدقاً وأمانة، بقدر ما هي للأكثر احتيالاً وقدرة على أكل أموال الناس بشتى الحيل والمكائد، ثم لا يرون في ذات الوقت تعاملاً جاداً وحازماً يكفل ردع هذا المحتال عن احتياله، وحفظ حقوق الناس التي استولى عليها، وهنا تتردد دوماً تلك العبارة القاتلة: (القانون لا يحمي المغفلين) ويبقى الضعفاء من الضحايا هم الملومون المحسورون.
إن الجهود المشكورة التي أثلجت صدور المواطنين، من قبل وزارة التجارة والصناعة، في كثير من مجالات الرقابة، وتصحيح عدد من مواطن الخلل التي كان المواطن سابقاً ينظر لها بكثير من الإحباط والشعور باليأس من أن يرى يوماً أي جهود جدية وفاعلة لحمايته منها، مثل قضايا الغش التجاري، أو الشيكات من دون رصيد، أو حماية المستهلك، أو المساهمات العقارية التي مات أصحابها بعد أن مات الأمل في عودة أموالهم، أقول: إن كل هذه النجاحات المشكورة تبعث على الأمل في تتويجها بأهم نجاح يمكن تحقيقه، من خلال إقرار نظام مكافحة جرائم النصب والاحتيال.
بحيث يكون هذا النظام شاملاً كافياً وافياً، يحمي الأموال، والأعمال، والتجارة، والحقوق، ويحفظ سمعة الوطن من كثير من أفراده الذين يسيئون إليه بممارسة مثل هذه الأعمال، التي تعطي انطباعاً بأن الميدان فسيح لكل من أراد النصب على الناس بأدنى الحيل، وأنه يمكن أن ينكشف أمره ويواجه ببعض العقوبات التعزيرية البسيطة، ثم يعود لممارسة أعمال الاحتيال بأكثر خبرة وحرفية وخبثاً.
يجب إعادة النظر في كثير من الدعاوى القضائية القائمة حالياً التي يطالب فيها الضعفاء المغلوبون على أمرهم ببعض حقوقهم التي استولى عليها أشخاص أو شركات ومؤسسات بصور احتيالية، وغالب هذه القضايا لا تنتهي بصدور الأحكام فيها، إذ تبقى تلك الأحكام بلا جدوى نظراً لإفلاس من صدرت الأحكام بحقهم أو هروبهم أو تهربهم.
إن من المؤسف كثيراً أن هناك قضايا تم فيها الاستيلاء على أموال الزكاة والصدقات، التي أخطأت بعض الجمعيات الخيرية بالدخول بها في استثمارات، تبين أنها وهمية وطارت في مهب الريح، ومع ذلك فاللصوص الذين نهبوا هذه الأموال يسرحون ويمرحون بلا محاسبة ولا ردع!.
هذه قضية أضعها على طاولة كل مسئول وطني صادق، من كل الجهات ذات العلاقة، لعلها تحرك المياه الراكدة، وتقود إلى خروج هذا النظام إلى النور - بإذن الله - وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني