حقوق الإنسان بين الإرهاب ومحاربة الإرهاب
إذا كان الإرهاب يؤدي إلى انتهاك ما للإنسان من حقوق، والتعدي عليها، وصولاً إلى أعظم هذه الحقوق وهو حقه في الحياة؛ فإن الحديث يدور دائماً عن أثر إجراءات محاربة الإرهاب على حقوق الإنسان أيضاً، وذلك في الطرف المقابل للقضية.
ويتجدد الجدل دائماً حول هذا الموضوع كلما قامت إحدى الدول بسن أنظمة وتشريعات للتعامل مع جرائم الإرهاب، إذ غالباً ما يتوجه الانتقاد إلى بعض تفاصيل هذه الأنظمة، واستنكار ما فيها من اختلاف عن أنظمة الإجراءات الجزائية في الظروف العادية.
من المعلوم أن نظام مكافحة الإرهاب في المملكة إنما صدر في أعقاب حرب شرسة خاضتها الدولة ضد هذا الاستهداف الواضح لأرواح الناس وأمنهم وممتلكاتهم، ولأمن الوطن واستقراره
ولأهمية وخطورة هذا الموضوع وجدت من المناسب تناوله وبيان الموقف الشرعي والقانوني منه - بحسب اجتهادي - وذلك للمساعدة على وضع النقاط على الحروف، ولعل من يطلع على هذا التوضيح أن يكون أكثر وعياً بأبعاد وجوانب هذه القضية، حتى لا يقع تحت تأثير من يستغلون مثل هذه القضايا في التلبيس على الناس، وتضليل أفكارهم. وذلك حين اطلعت على بعض التعليقات عقب صدور نظام مكافحة الإرهاب وتمويله في المملكة، التي تنم إما عن جهل أو عن سوء قصد، لبعض من يتشدقون بمبادئ حقوق الإنسان، أو بأهمية احترام القانون، بينما هم أبعد الناس عن فهم حقيقة ما يقولون.
فمن المعلوم أن نظام مكافحة الإرهاب في المملكة إنما صدر في أعقاب حرب شرسة خاضتها الدولة ضد هذا الاستهداف الواضح لأرواح الناس وأمنهم وممتلكاتهم، ولأمن الوطن واستقراره.
ولولا فضل الله عز وجل وتوفيقه لأجهزتنا الأمنية، ويقظة القائمين عليها، لكانت البلاد اليوم تعاني كما يعانيه غيرها من الدول من استمرار مسلسل القتل والترويع والتفجير.
إذاً فهذا النظام لم يصدر ترفاً، ولا تحسباً لاحتمالات قد تطرأ مستقبلاً، بل صدر بعد سنوات من خوض الحرب مع هذا الخطر الذي يتطلب من الجهود والإجراءات ما يتواكب مع خطورته وتعقيده.
ثم إن هذا النظام حين صدر لم يتضمن مطلقاً أي خرق لضمانات العدالة، ولا لحقوق الإنسان المتهم، بل كان غاية ما اشتمل عليه، مجرد إجراءات مختلفة عما تضمنه نظام الإجراءات الجزائية الذي جاء لتنظيم إجراءات الجرائم ذات الطابع العادي، التي يرتكبها الأفراد لدوافع شخصية معتادة، وليس مصوغاً لمعالجة جرائم الإرهاب التي يعترف العالم كله بخطورتها، ويدرك العقلاء جميعهم أبعادها وجذورها.
فما الذي ينقمه عليه من يتشبثون بمصطلحات ومبادئ لا يدركون حقيقتها؟ وهل يريدون أن تعالج الجريمة الإرهابية ذات العمق والامتداد والخطر، كما تعامل به الجريمة العادية الصادرة عن شخص لا ارتباط له بتنظيم، ولا يعتنق أي فكر خبيث كان هو المحرض له على جريمته؟! ساء ما يحكمون وما يفهمون.
لقد عرفت الشريعة الإسلامية قبل القوانين الوضعية أن مثل هذا النوع من الإجرام يتطلب حزماً مختلفاً، وإجراءً يتناسب مع طبيعة الجرم.
ففي الشريعة الإسلامية من المتقرر أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وأن له في باب السياسة الشرعية أوسع الصلاحية في تقرير ما يراه حافظاً لدين الأمة وأمنها وسلامتها.
وفي هذا الباب يقول الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - مقولته المشهورة: (يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور).
وإذا كان مرتكب الجريمة الإرهابية إنما ارتكبها تحت تأثير فكر خبيث تلبس به، جعله يستحل دماء المسلمين وأموالهم وأمن بلادهم، فإن مثل هذا أشد خطراً من صاحب البدعة الذي يدعو إلى بدعته، وقد أكد فقهاء الإسلام واجتمعت أقوالهم – رحمهم الله – على أن صاحب البدعة الداعي إليها يحبس حبساً مؤبداً اتقاء شره، ولا يحدد حبسه بمدة كحبس غيره من أصحاب المعاصي، بل يرتبط حبسه بمدة بقائه على معتقده وفكره الضال. وهذا بطبيعة الحال في صاحب البدعة غير المكفرة، أما صاحب البدعة المكفرة فله شأن آخر.
كما أن من قواعد الشريعة الإسلامية دفع الضرر العام عن الناس ولو بارتكاب الضرر الخاص.
أما إذا ما نظرنا إلى القوانين الوضعية، فإنها قد أقرت بحق كل دولة في سن الأنظمة والتشريعات التي تحفظ أمنها واستقرارها، ولو كانت هذه الأنظمة تنطوي على شيء من الإجراءات الاستثنائية غير المعتادة في الظروف العادية، متى كانت هذه الإجراءات خاصةً في التعامل مع جرائم إرهابية مما تتعرض له الدولة.
وفي القانون الإداري يعرف ما يسمى بنظرية (الظروف الاستثنائية) التي تقرر أن للدولة الحق في إقرار إجراءات استثنائية تطال حقوق وحريات الأفراد، بوضع قيود إضافية عليها، بما يمكن الدولة من ضبط النظام العام، وحماية حقوق وحريات الكافة، وذلك في الأحوال الاستثنائية كالحروب، والطوارئ وحالات الحصار، ومن ذلك أحوال المواجهة مع الإرهاب حين تكون الدولة مستهدفة استهدافاً واضحاً.
ولا يمكن لأحد أن يذهب بعيداً في فهم المقصود بهذا الكلام، بأنه يعني إهدار حقوق الإنسان المتهم بتلك الجرائم، أو انتهاك ما هو مقرر له من ضمانات تكفل له محاكمةً عادلة، ومعاملة لا تعذيب فيها ولا انتهاك لعرضه أو حرمة جسده.
بل تبقى الإجراءات الاستثنائية مقصورة في حدود ما يتطلبه التعامل مع الجريمة الإرهابية، في تقصي الحقائق حولها، وكشف جوانبها وأبعادها، وتحديد مدى تلبس المتهم بها، ونحو ذلك من مسائل ضرورية لمكافحة الإرهاب والقضاء عليه، بصفة جرائمه مرتبطةً بالفكر والمعتقد، لأن الجريمة الحقيقية موجودة في رؤوس المتهمين وأفكارهم، وما أفعالهم الإجرامية إلا تعبير عن هذا الفكر وتطبيق له.
وإذا كان الاستثناء مقتصراً على جانب الإجراءات فقط، فإن الضمانات تبقى محفوظةً لا مساس لها، ويبقى القضاء هو المراقب للالتزام بذلك، وهو المرجع للتظلم في هذا الجانب. وهذا ما تكفله الأنظمة في المملكة بحمد الله.
أرجو أن يكون شيء من غموض هذا الموضوع قد تجلى، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.