حين يرى العقلاء ما لا يراه السفهاء

ع
مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

في استقباله - أيده الله - لجمع ٍ من الأمراء والعلماء والوزراء ومنسوبي القوات المسلحة، يوم العيد بمنى، ألقى خادم الحرمين الشريفين كلمة مقتضبة مرتجلة، استوقفني عند سماعها عبارات لا تمر على العقلاء مرور الكرام، لأنها لا تخرج من رجل بمثل مكانة خادم الحرمين الشريفين وموقعه - أيده الله - من المسؤولية الجسيمة، وإدراكه التام لخبايا الأمور وزواياها؛ إلا ويكون لها من الدلالات والمعاني والمؤشرات ما يستوجب التوقف الطويل، والفهم العميق، والحرص الشديد على وضعها في موضعها المناسب من الجدية في التعامل .

حيث قال " حفظه الله وأيده " : إنكم درع هذا الوطن بعد الله، ولا شك بأنكم تعلمون ما تمر به المنطقة في المرحلة الراهنة التي يتربص بها أعداء الأمة بوطنكم ولا هدف لهم غير الإخلال بأمن بلادنا ووحدته التي تحققت وكافح من أجل وحدتها الملك عبدالعزيز وأجدادكم - يرحمهم الله -

إن الفتن تحيط بنا من كل جانب، ولا رادع لها إلا بالتوكل على الله، والوقوف في وجه كل من تسول له نفسه أن يعبث بأمن ووحدة وسيادة بلادنا، لذلك علينا أن نكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا. فبارك الله فيكم وأعانكم بنصر من عنده ".

لقد أعادني هذا التحذير منه " أيده الله " إلى مقولة جليلة للإمام الحسن البصري يقول : " الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، فإذا أدبرتْ عرفها كل جاهل " أي أن الفتنة إذا أقبلت لا يعرف حقيقتها إلا العالم الذي يدرك حقائق الأمور ولا ينخدع بظواهرها، أما إذا وقعت الفتنة وأريقت الدماء استوى في معرفتها العلماء والجهال السفهاء، حين لا تفيد معرفتُها شيئاً ولا تدفع شراً .

وهذا داخل في إطار معرفة مآلات الأمور، التي قال عنها ابن الجوزي " رحمه الله " مقولة عظيمة من عُمق معناها وقوة مبناها حفظتُها منذ طفولتي وما أزال، يقول فيها : " من عاين بعين بصيرته، تناهي الأمور ِ في بداياتها ؛ نال َخيرها ونجا من شرِّها . ومن لم يهتَم َّبالعواقب غلب عليه الحسّ ، فيأتيه العطب من حيث رجا السلامة " .

ومع كون حقيقة كثرة الفتن التي تحيط بنا، والأخطار التي تتربص بكياننا ووحدتنا وسلامة وتماسك وأمن مجتمعنا، أمراً لا يخفى على من له أدنى بصيرة، إلا أن التحذير منها حين يصدر من قائد المركب وربّان السفينة، فما من شكّ أن الأمر جلل .

ولم يقف خادم الحرمين الشريفين " حفظه الله ووفقه " في خوفه على أمته ووطنه وشعبه وحرصه التام على سلامتهم وحمايتهم، لم يقف عند حد التحذير فقط، بل ما ترك وسيلة من وسائل دفع الفتنة عنهم، وصيانة وحدتهم وأمنهم وتماسكهم، إلا وأخذ بها - حفظه الله - في إحساس عال بخطورة المرحلة، وإدراك عميق لأسباب الأخطار ومصادرها الحقيقية .

لقد تجلت الخطوات العملية التي تكشف عن معالم منهجه " حفظه الله " في حماية أمته ودولته وشعبه من هذه الفتن المحدقة، في عدة نواح تعتبر في مجموعها هي السبيلَ الصحيح َ لتحقيق الغاية العظيمة في دفع الفتن والأخطار عن الأمة والدولة والمجتمع، لكنها لايمكن أن تؤدي الغاية المأمولة منها ما لم تجد تفاعلاً واستجابة من أفراد الأمة والمجتمع، ومن وجوه أهل العلم والرأي، ومن عقلاء الوطن ومسؤوليه، كلّ بحسب موقعه وبقدر طاقته .

ومتى ما تحقق هذا التفاعل والاستجابة، وقام كل عاقل بدوره في ضبط سلوكه أولاً ثم في ضبط سلوك من تحت يده ممن هم أقلّ إدراكاً، وأقصر نظراً، فإن العاقبة " بإذن الله " حميدة، والمستقبلَ واعد، والواقعَ مأمون الخطر .

ولعلي هنا ألفت الأنظار إلى شيء من هذه الخطوات التي أعتقد أنها تُمثّل منهج خادم الحرمين الشريفين " أيده الله " في دفع الفتنة والحماية من الوقوع في مخاطرها فمن ذلك :

أولاً : دعا " أيده الله " إلى الحوار وأمر بفتح أبوابه داخل الوطن وخارجه، وانتدب لذلك خيرة الرجال من ذوي العلم والدين والفهم والعقل والخبرة الطويلة من رجالات الوطن الذين يحق له أن يفاخر بهم . ومن بديع كلماته " حفظه الله " عن ذلك قوله أمام قادة الوفود الإسلامية في الحج : " إن حوار الأمة الإسلامية مع نفسها واجب شرعي فالشتات والجهل والتحزب والغلو، عقبات تهدد آمال المسلمين.

إن الحوار تعزيز للاعتدال والوسطية، والقضاء على أسباب النزاع والتطرف، ولا مخرج من ذلك إلا أن نعلق آمالنا بالله، فهو القائل « وَلا تيئسوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا ييئس مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الكافرون » ومن ثم التوكل بعزيمة مؤمنة لا تعترف بالعثرات مهما كانت . إن فكرة مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية، والذي أعلنا عنه في مكة المكرمة لا يعني بالضرورة الاتفاق على أمور العقيدة، بل الهدف منه الوصول إلى حلول للفرقة وإحلال التعايش بين المذاهب بعيدا عن الدسائس أو غيرها، الأمر الذي سيعود نفعه لصالح أمتنا الإسلامية وجمع كلمتها " أ.ه

ثانياً : حذّر " حفظه الله " وشدّد التحذير من العصبية والتصنيفات المذهبية والطائفية والمناطقية والقبلية التي تمزق المجتمع وتفتك بوحدته، وتستعدي أفراده بعضهم على بعض، حتى تشتعل النار بين أظهرهم، ويصبحوا شيعاً وأحزاباً، ويقعوا فيما نهى الله عنه وجعله سبباً وعلامة على السقوط والفشل . قال عز وجل : (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ..) الآية .

ثالثاً : سعى " حفظه الله ووفقه " بكل ما آتاه الله من طاقة، للقضاء على الفساد، وتتبع الفاسدين، وفعّل لذلك هيئة مكافحة الفساد التي ظهر جهدها المشكور جلياً لكل ذي بصر وبصيرة، رغم عمرها القصير، وإمكاناتها التي ما تزال في طور البناء والتأسيس .

رابعاً : أن منهجه " حفظه الله " امتاز في ميدان إدارة الدولة بميزتين لا ينكرهما إلا جاحد، وهما في الحقيقة صمام أمان الإصلاح، والواقي - بإذن الله - من الفساد، هاتان الميزتان هما :

اختيار الأكفأ للمناصب، ومحاسبة المقصر من الوزراء والمسؤولين أياً كان مركزه .

فكان اختيار الأكفأ وتقديم الأصلح لأي منصب هو الأساس الذي يسير عليه خادم الحرمين الشريفين، بداية من منصب ولاية العهد الذي اتخذ فيه خادم الحرمين الشريفين القرار مرتين، في سابقة قلما تتكرر في تاريخ الدول، ومروراً بمناصب الوزراء .

وفي محاسبة المقصر، كلنا يعلم كم من الأوامر السامية خلال عهده الميمون صدرت بإعفاء وزراء ومسؤولين تبين تقصيرُهم، أو ظهر الخلل في أدائهم . دون أن يتردد " حفظه الله " في ذلك .

هذه مجرد إشارات موجزة لبعض الخطوات العملية التي خطرت في بالي عند سماعي للتحذير الشديد الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين لأبناء شعبه من الفتن التي تحيط بهم وبدولتهم، وتستهدف أمنهم ووحدتهم .

إنه تحذير العارف، وتخويفُ المشفق، وكلما كان القائد مُحبّاً لشعبه، والراعي حريصاً على رعيته، كان تحذيره وتخويفه لهم بقدر هذا الحب والحرص، وقديماً قالت العرب : (الرائد لا يكذِبُ أهلَه)..

حفظ الله لنا هذا القلب المحب الناصح، وجعل التوفيق والرشاد حليفه، وجزاه عنا خير ما جزى به قائداً عن أمته، وجعله لنا خير وال وجعلنا له خير رعية آمين.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه .

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني