عوائق أمام العدالة تحتاج إلى مشروعٍ وطنيٍ آخر
عند الحديث عن الشأن القضائي والحقوقي في المملكة يكاد المتحدثون فيه أن يجمعوا على أن الإشكالية الرئيسة التي تواجه القضاء السعودي هي قلة عدد القضاة، وذلك يتضح من تصريحات أصحاب الفضيلة والمعالي المعينين حديثاً القائمين على الجهات القضائية، حيث وعدوا جميعهم بالسعي الحثيث إلى زيادة أعداد القضاة وأشاروا إلى توافر الوظائف الشاغرة التي تتيح تحقيق هذه الغاية. ومع التسليم بوجود إشكالية ٍ حقيقية في هذا الأمر إلا أنه يجب عدم إغفال باقي العوائق التي تحول دون النهوض بالقضاء في المملكة في جميع تخصصاته. ومن وجهة نظري، فإن لدينا من الإشكاليات الكبيرة والتحديات الجسيمة التي تشكل عائقاً أمام تحقيق بيئةٍ عدليةٍ متطورة تُحفظ فيها الحقوق وتصان فيها الكرامات ويصل فيها كلُّ ذي حق ٍ إلى حقه بأحسن الصور. وهذه العوائق الكبيرة والجسيمة تتطلب مشروعاً وطنياً عدلياً حقوقياً للنهوض بالبيئة الحقوقية والعدلية والقانونية يفوق مشروع تطوير القضاء الذي تم البدء فيه حالياً، لأنه لا تتحقق الغاية المرجوة من تطوير القضاء دون معالجة ما يعترض سبيل ذلك من عوائق كبيرة. وهذا المشروع الوطني الكبير الذي أحلم بتحقيقه لا يقتصر على الجهات القضائية فقط، بل يتعداها إلى سائر الجهات ذات العلاقة والتي تشكل منظومةً معقدة لكلٍ منها دوره في النهوض بالحالة الحقوقية العدلية لدينا. وهذه العوائق التي أتحدث عنها تُشكَّـل هماً يؤرق كل المشتغلين بالشأن الحقوقي في المملكة من خلال الممارسات اليومية التي يواجهونها في هذا المجال. كما أن هذه الإشكاليات والعوائق مما لا تتسع له مساحة ُ مقالٍ واحد ولا عدة مقالات إلا لمجرد الإشارة إليها دون استقصاء، وسأحاول جاهداً إيراد شيءٍ من هذه العوائق مع الإشارة إلى بعض المعالجات المقترحة، راجياً أن يكون لها صدىً عند القائمين على هذا الشأن من الغيورين على وطنهم والحريصين على الرقي به. ولعله يتضح للقارئ الكريم بعد عدة مقالات أن حصر مشكلة القضاء السعودي في قلة عدد القضاة، ليس تشخيصاً دقيقاً وافياً لمشكلة القضاء في المملكة. ففي مجال القضاء الإداري على وجه الخصوص تعد من أهم الإشكاليات التي تواجهه عدم تفعيل الإدارات القانونية في الوزارات والجهات الحكومية، وما تعانيه هذه الإدارات من ضعفٍ شديد ونقصٍ في الكوادر المؤهلة وتغييبٍ شبه تامٍ لها في كل ما يدور داخل الوزارة أو الإدارة من أعمالٍ وقراراتٍ تخضع كلها للتقدير الفردي والأسلوب الشخصي من قبل المسؤول الذي يستقل بنفسه عند اتخاذ القرارات دون الرجوع إلى الإدارات القانونية واستطلاع رأيها النظامي، وهذا ما أشرت إليه في المقال السابق كصورةٍ من صور الفساد الإداري. إن النهوض بالإدارات القانونية داخل الوزارات والجهات الحكومية كافةً يساعد على إيجاد بيئةٍ قانونيةٍ إدارية تمنع كثيراً من التجاوزات الخطيرة التي أصبحت تؤذي كثيراً من المتعاملين من الأفراد مع الجهات الحكومية، كما أن تطوير هذه الإدارات القانونية وإعطاءها الصلاحية اللائقة بها وإشراكها بصفة أكبر في تسيير قرارات الوزارة أو الإدارة يقود أيضاً إلى تحقيق العدالة المنشودة بين الناس وزرع الثقة والطمأنينة لديهم بقرارات الجهات الحكومية التي تخصهم وتمس حقوقهم. ولأجل النهوض بهذه الإدارات القانونية ورفع مستواها في الأداء لا بد من إعادة النظر في كثيرٍ من الأوضاع القائمة حالياً فيها وتتبع ما تعانيه هذه الإدارات من مشكلات وعوائق لوضع الحلول اللازمة لها. وإني أؤكد أن هذا الأمر ليس بالسهل اليسير، وأنه لا يتحقق إلا بوجود إرادةٍ قويةٍ وعزيمةٍ صادقة تسعى إلى الإصلاح في شتى مناحي الدولة، وخاصةً أن كثيراً من الإدارات الحكومية التي تتعلق بتشغيل المرافق العامة ورعاية مصالح الناس تكاد تنوء بحملٍ ثقيل لما آلت إليه من ترهلٍ في أنظمتها وكوادرها وموظفيها وأسلوبها في التعامل مع الناس، وهذه الحالة تعد بيئةً مناسبةً للفساد بشتى صوره. إن النظرة إلى الإدارات القانونية في أجهزة الدولة ينبغي ألا يقل عن النظرة للجهات القضائية والعدلية، وذلك كونها تؤدي دوراً مماثلاً لها وله مساس بالفصل في حقوق الناس، وعلى هذا فينبغي ألا يتم السير في مشروع تطوير القضاء بمعزلٍ عن تطوير هذه الإدارات القانونية. ولعل من أبرز المشكلات التي تعانيها الإدارات القانونية ما يلي:- 1. النقص الكبير في عدد المستشارين الشرعيين والقانونيين في كثيرٍ من الأجهزة الحكومية، بحيث يكون العدد المتوافر في الوزارة أو الإدارة لا يفي للقيام بكل المهام المنوطة بها، وهذا في ظل عدم تفعيل هذه الإدارات بالشكل الكافي ولو تم تفعيلها لأصبح النقص أكبر والحاجة إلى المزيد من المستشارين أشد. 2. ضعف التأهيل والكفاءة في كثير ٍ من هؤلاء المستشارين. 3. عدم توفير كل ما تحتاج إليه الإدارات القانونية في عملها من تأمين الأنظمة واللوائح وما يطرأ عليها من تعديلاتٍ أو توفير المراجع والبحوث القانونية ذات الصلة. 4. قد يوجد في بعض الإدارات الحكومية من يشغل المستشارين بأعمال ٍ إدارية ٍ بحتة لا تعتبر من صميم اختصاصهم مما يشغلهم عن أعمالهم الأصلية. ولعل أبرز الأسباب لمشكلتي نقص المستشارين في الإدارات القانونية وضعف كفاءتهم يعود إلى عزوف المؤهلين منهم عن الالتحاق بالعمل في الحكومة واتجاههم إلى العمل الحر في مجال المحاماة أو العمل في القطاع الخاص، الذي يوفر لهم دخلاً مادياً أكبر وحوافز تشجيعية ويمكنهم أيضاً من تطوير ذواتهم ورفع تأهيلهم بالدورات التدريبية والدراسات العليا وغيرها مما يقل توافره في أجهزة الدولة. وفي هذا الصدد أطالب بضرورة إيجاد كوادر وظيفية خاصةٍ بالمستشارين في الوزارات والأجهزة الحكومية لا تقل عن كوادر القضاة أو أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام نظراً لاشتراكهم جميعاً في المؤهل نفسه وهو شهادة الشريعة أو القانون، ولاشتراكهم أيضاً في طبيعة العمل وأهميته. وبغير توفير الحوافز واستقطاب المؤهلين من المستشارين للعمل في أجهزة الحكومة فستبقى هذه الإدارات ميداناً فسيحاً لكل من ضعفت كفاءته وقلَّت خبرته ممن لا تقوم على أكتافهم نهضةٌ قانونيةٌ إدارية. وفي حال تم توفير الأكفاء من المستشارين وإشراكهم في القرار والعمل الإداري في جميع مراحله، فإن من المتوقع بل والمؤكد أن نسبةً كبيرةً من القضايا التي ملأت أدراج وخزائن المحاكم الإدارية في ديوان المظالم والتي تمضي السنوات الطوال دون البت فيها وهي في تزايد ٍ مقلق، أنها ستقلُّ كثيراً بإذن الله. ومما يستحق التنويه عنه هنا أن مشروع الملك عبد الله - حفظه الله - للابتعاث يعد فرصةً ثمينةً للاستفادة من شبابنا وأبنائنا المبتعثين لدراسة القانون والأنظمة في سد هذا الفراغ القائم، وإصلاح حال الإدارات القانونية لجميع الأجهزة الحكومية، ولكن شريطة توفير الحوافز التي ترغبهم في الالتحاق بهذه الإدارات كما أشرت. والله من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل.