قاض في الصباح.. محام في المساء!

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

عندما صدر نظام المطبوعات والنشر بتاريخ 3/9/1421ه تضمن في المادة السابعة والثلاثين منه "أن تنظر في المخالفات لأحكام هذا النظام لجنة تشكل بقرار من الوزير برئاسة وكيل الوزارة المختص لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة يكون أحدهم مستشاراً قانونياً، وتصدر قراراتها بالأغلبية بعد دعوة المخالف أو من يمثله.. ولا تصبح قرارات اللجنة معتمدة إلا بعد موافقة الوزير عليها".

ثم نصت المادة الأربعون على أنه "يحق لمن يصدر بشأنه عقوبة بمقتضى أحكام هذا النظام، التظلم أمام ديوان المظالم، وذلك خلال ستين يوماً من تاريخ إبلاغه بالقرار الصادر بذلك". وعلى هذا فقد كانت اللجنة المختصة بنظر مخالفات نظام المطبوعات والنشر، لا تعدو كونها لجنة إدارية عادية، ليس لها أي صبغة قضائية، وكان المتضرر من أصحاب الحق الخاص الذين تشتمل مخالفة المطبوعة أو الوسيلة الإعلامية أي إساءة له في سمعته أو غير ذلك، يحق له التظلم ورفع دعواه أمام المحكمة المختصة على الجاني مباشرة.

واستمر الحال كذلك إلى أن جاء تعديل النظام عام 1432ه وتم بموجبه تحويل هذه اللجان من لجان إدارية، إلى لجان شبه قضائية، وصار أعضاؤها يعينون بموجب أمر ملكي، ووضع التقاضي فيها على مرحلتين: ابتدائي واستئناف. ومن الواضح للعيان أن هذا التعديل إنما جاء لإحاطة مثل هذه القضايا بمزيد اهتمام، من خلال تخصيص لجان شبه قضائية بنظرها، وقصر النظر في كل دعاوى مخالفات المطبوعات والنشر على هذه اللجان، بما يقتضي منع المحاكم من ذلك.

وكان يفترض بمثل هذا التعديل أن يرتقي بمستوى النظر في هذا النوع من القضايا، إلا أنه وبالنظر إلى الواقع الحالي لهذه اللجان، يظهر جلياً أنها قد لا تكون حققت المأمول منها، وأنها ما زالت بحاجة إلى بعض التعديل والمراجعة. ولعل أقرب مثال على عدم انسجام واقع اللجان المختصة بالنظر في مخالفات نظام المطبوعات والنشر، مع الأصول العامة للقضاء، أن هذه اللجان هي الوحيدة في المملكة، التي يجمع قضاتها بين العمل في القضاء من خلال شغل وظائف قضاة لهذه اللجان في الصباح، وبين العمل في المحاماة من خلال حصولهم على تراخيص مزاولة مهنة المحاماة، وامتلاكهم مكاتب محاماة!

ولا يخفى أن مثل هذا الوضع يعتبر نشازاً غير منسجم مع ما يجب أن يتوافر في القاضي من حياد واستقلال تام لا يشوبه أي شائبة. بينما الجمع بين العمل في القضاء والمحاماة في آن معاً لا يستقيم مع هذا الأصل الثابت. كما أنه لا يخفى ما تضمنه نظام القضاء، والتوجه الإصلاحي الجديد لمرفق القضاء، من تقليص اللجان شبه القضائية التي تقع تحت مظلة الوزارات والجهات التابعة للسلطة التنفيذية، وتأسيس محاكم مستقلة لكل نوع من أنواع القضايا، تكون تابعة للسلطة القضائية، وتتميز بكل ما يجب أن يشتمل عليه القضاء من ضمانات. فلا ينسجم مع هذا التوجه أن يصدر بالتزامن مع صدور نظام القضاء الجديد، إنشاء مثل هذه اللجان التي تنسلخ عن الجسم القضائي، وتعمل منفردةً بعيداً عن رقابة الجهات الرقابية القضائية، موضوعاً وشكلاً.

وفي دلالة أخرى على اختلال وضع مثل هذه اللجان، أن قضاتها لا يخضعون - حد علمي - لرقابة التفتيش القضائي في المجلس الأعلى للقضاء، وذلك فيما يتعلق باستقبال الشكاوى منهم أو عليهم بسبب أعمالهم. كما لا تخضع أحكام هذه اللجان لما تخضع له أحكام القضاء الأخرى من رقابة المحكمة العليا التي أراد المنظّم لها أن تبسط رقابتها على سائر الأحكام القضائية، وأن تضع المبادئ والقواعد القضائية التي تسهم في رفع مستوى أحكام القضاء.

ومن خلال تجربة شخصية لي في هذه اللجان، فإنه يمكنني القول إنها لا تحظى بنفس المستوى الذي نشهده في ساحات المحاكم من تيسير إجراءات التقاضي، والاهتمام بسرعة الفصل في النزاعات، بل تبقى بعض الدعاوى مدداً طويلةً تراوح مكانها دون إنجاز، بينما دعاوى أخرى يتم الفصل فيها على وجه السرعة، دون وضوح أي معايير لهذه التفرقة.

إن الواضح من توجه المنظّم إلى تعديل الآلية السابقة في نظام المطبوعات والنشر، للنظر في دعاوى مخالفات هذا النظام، أنه أراد بذلك تحويلها من آلية إدارية إلى أحكام قضائية تمنح هذا النوع من القضايا المزيد من الاهتمام والعناية اللائقة بها؛ إلا أن واقع هذه اللجان اليوم قد لا يكون حقق الغاية المقصودة منها، ويتطلب إعادة النظر في تصحيح ما اعتراها من قصور، إما بسلخها بالكامل من تبعية ومظلة وزارة الثقافة والإعلام إلى مظلة وزارة العدل، وتفريغ قضاتها للعمل فيها وتصحيح الخلل بجمعهم بين العمل في القضاء والمحاماة، ومساواتهم بزملائهم من قضاة المحاكم في كافة الحقوق والواجبات، وإخضاعهم لنفس ما يخضع له القضاة من رقابة موضوعية وإجرائية.

كما أن من الضروري التأكيد على أنه لا ينبغي إحلال أحكام هذه اللجان، محل أحكام القضاء المختص فيما يتعلق بالنظر في دعاوى الحقوق الخاصة، المتعلقة بما تنطوي عليه مخالفات المطبوعات والنشر من مساس بأعراض الناس بالسب أو القذف، وأن من حق المتضرر اللجوء للمحكمة المختصة للمطالبة بحقه الشرعي، ولا يكفي عن ذلك ما تضمنه النظام من عقوبات.. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني