ليست خطبة الحرم فقط

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

المؤمن المخلص الصادق هو الذي يغار على أهله وبلده، يعمل أكثر مما يتكلم، يد تحمي ويد تبني، يحذر ويحذر من كل مظاهر الفوضى والاضطراب، حصيف يدرك مكائد الأعداء في حب، وقدوة، ومسؤولية، وجد، وعمل، ومنع إثارة الفتن.

خطب معالي الشيخ صالح بن حميد يوم الجمعة الماضي على منبر الحرم المكي الشريف خطبةً لا يسع قلمي أن يتجاوزها، بعد أن رسخت معانيها في قلبي، وهزت كلماتها أركان نفسي. وليس ذلك غريباً على خطيب زمانه، معالي الشيخ صالح "وفقه الله" الذي تعودنا منه التعايش مع قضايا الأمة عموماً، والقضايا الوطنية على وجه الخصوص.

وليس يغيب عن ذاكرتي أبداً تلك الكلمات التي قالها فقيد عصره، صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز "غفر الله له وجمعنا به في أعلى الجنة" في إجابته عن سؤال لأحد الصحفيين، عن موقف المملكة من مجزرة عناقيد الغضب الإسرائيلية القذرة، والمقتلة العظيمة في قانا اللبنانية، حينها أجاب الأمير سلطان "رحمه الله": موقف المملكة عبر عنه الشيخ صالح بن حميد في خطبة الحرم!!

وللقارئ أن يقف عند هذه الإجابة طويلاً، ويعجب من هذه السابقة السياسية، في أن يؤكد سياسي كبير يتكلم باسم الدولة، أن موقفها الرسمي هو ما جاء في خطبة الجمعة. إلا أن المفاجأة هنا لم تنته بعد ؛ فإن كلمة الأمير سلطان هذه جاءت أيضاً بعد احتجاج رسمي تقدمت به أمريكا إلى المملكة ضد خطبة الشيخ ابن حميد هذه.

هذه الحقيقة مما أجدني أستذكرها وأنا أستمع بشغف لصوت الإيمان والعقل والنصح والحكمة الذي يصدح من جنبات المسجد الحرام في خطبة الجمعة الماضية.

هذا الصوت الذي يقول: "وإن من أعظم ما نتذاكر به ونشكره ولا نكفره، ويشكره جميع أهل الإسلام: ما أنعم الله به على هذه البلاد - بلاد الحرمين الشريفين - من نعمة التوحيد والوحدة، وإقامة الشرع، وبسط الأمن، ورخاء العيش، ونعوذ بالله من التقلبات السياسية، والحروب الأهلية، والتحزبات الطائفية".

وانطلق فضيلته في التذكير بأعظم ما تعيشه هذه البلاد - بفضل الله - من نعم عظيمة، ثم قال: "وقد علم الجميع أن هناك محاولات وجهات تستهدف تفتيت الوحدة، وتكدير الأمن، وانتهاب الخيرات حسدًا من عند أنفسهم على ما أنعم الله به من اجتماع الكلمة، والأمن على الدين والدنيا، والأعراض والأموال والأهلين. نعم كبرى لا تكاد تجتمع في بلدان كثيرة.

وقد علم العقلاء أنه لا مكان لمخرب بين شعب يقظ يدرك معنى البناء، ويقف حارسًا أمينًا، ساهرًا مخلصًا.

المؤمن المخلص الصادق هو الذي يغار على أهله وبلده، يعمل أكثر مما يتكلم، يد تحمي ويد تبني، يحذر ويحذر من كل مظاهر الفوضى والاضطراب، حصيف يدرك مكائد الأعداء في حب، وقدوة، ومسؤولية، وجد، وعمل، ومنع إثارة الفتن.

وكل محب ومخلص لا يمكن أن يسمح لأحد بالسعي في هدم بلده، أو التطاول على قيمه وثوابته، أو يسعى في إشاعة الفوضى، أو الاستجابة لمن يريد زعزعة الاستقرار والإخلال بالأمن".

ورغم ما تضمنته هذه الخطبة العظيمة من نداءات الحكمة، ومشاعر النصيحة والتحذير من أسباب الفتنة، إلا أن الموعظة والتحذير من ذلك لا يقتصران على هذه الخطبة فقط ؛ إذ كل عاقل ولو حتى بنصف عقل، يرى ما يجري حولنا من أحداث، وما تكشفه الأيام من مخاطر، فيرى في كل ذلك أبلغ الموعظة وأعظم التحذير، من أن يجري علينا ما جرى على غيرنا، بل إنه إذا كان من ثاروا على الطغاة الذين ظلموا عباد الله وأفسدوا في الأرض وأعرضوا عن شرع الله لا يعملون به ولا يدعون إليه؛ إذا كان من ثاروا عليهم أصبحوا اليوم يتمنون لو أنهم صبروا وتحملوا ذلك الطغيان، ولم يحل بهم ما حل من عظائم المصائب ؛ فكيف بنا ونحن - بفضل الله - عز وجل ننعم بأعظم النعم، في ظل ولاة أمر يقيمون شرع الله، ويرحمون عباد الله، ويسعون جهدهم للإصلاح والبناء؟!

إننا أولى بحفظ النعمة من غيرنا، وحفظها يكون بشكر الله عليها، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

إن في نشرات الأخبار التي تطالعنا بها كل وسائل الإعلام على مدار الساعة، لأبلغ موعظة يجب وعيها واستيعابها جيداً، إنها رسالة لكل من يسلك مسالك التشويش والفتنة، وكل من يلتحف شعار النصيحة والإصلاح، بألا يتخذ من هذا الشعار حجة لإفساد الوطن، ولا للإخلال بالأمن، ولا بإثارة الناس، فالإصلاح الأعظم هو في التمسك بالنعمة العظيمة وصيانتها، والمحافظة على السكينة ورعايتها، وممارسة النقد والدعوة إلى الخير بالتي هي أحسن. فإنه إن كان ذلك هو الأساس المطلوب في كل زمان ومكان ؛ فإنه اليوم فرض لازم، وشرع واجب، ومن خالفه فإنه لم يرد بالمسلمين إلا شراً وإن ادعى خلاف ذلك.

حفظ الله بلدنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، وأدام الله هذه البلاد عزيزةً شامخةً آمنةً مطمئنة، في ظل شريعة الله عز وجل، وتحت راية ولاة أمرها المخلصين.

والحمد لله أولاً وآخرا..

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني