متى يكون القضاء رادعاً للمماطلين والمحتالين؟

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

نجاح القضاء في أداء مهمته لا يقاس فقط بقدرته على إصدار الأحكام فيما يعرض عليه من نزاعات ودعاوى ؛ إنما يعتبر القضاء مُحقّقاً لغايته إذا أصبح المماطل والمعتدي يحسبان لهذا القضاء ألف حساب

الغاية الأسمى من القضاء هي حفظ الحقوق، وحماية الحرمات، وإيصال ما فات منها إلى صاحبه في أفضل صورة وبأحسن سبيل وهذه الغاية السامية لا يمكن تحقيقها ما لم يتوفر في القضاء عنصر الردع والزجر والتأديب، لكل من يقف عقبة في سبيل ذلك.

كما أن نجاح القضاء في أداء مهمته لا يقاس فقط بقدرته على إصدار الأحكام فيما يعرض عليه من نزاعات ودعاوى ؛ إنما يعتبر القضاء مُحقّقاً لغايته إذا أصبح المماطل والمعتدي يحسبان لهذا القضاء ألف حساب.

وحتى نعرف ما مدى توفر هذا المقياس في قضائنا، أطرح سؤالاً أعتقد أن الإجابة عنه تكاد تكون معلومة لأكثر الناس، وهذا السؤال هو :

كم هي نسبة المطالبات الحقوقية التي يتم تسويتها ودياً قبل اللجوء للقضاء، هيبة من القضاء ؟ وكم نسبة آكلي الحقوق الذين يبادرون بأداء الحقوق التي عليهم دون الحاجة إلى المحاكم خوفاً من أحكام القضاء؟

لا أظن مثل هذا السؤال يحتاج كغيره من الأسئلة إلى دراسات وإحصائيات للإجابة عنه، بل يكفي أن نعرف واقع القضاء لنصل إلى إجابة هذا السؤال.

فإذا كان لك أي حقعند مماطل محتال استولى على مالك دون وجه حق، أو ماطلك في سداد دين عليه، أياً كان سبب هذا الدين، إما ثمن مبيع أو أجرة عقار أو سداد قرض، أو أخذ منك مالاً أوهمك أنه سيضارب به في تجارة معينة، ثم تبين أنه خان فيه الأمانة وأساء التدبير، أو أي صورة من صور أكل أموال الناس بالباطل ؛ فإنك حين تلجأ إلى القضاء تحتاج مدة قد تصل لعدة سنوات من التداعي والمرافعات والأحكام والاعتراضات، لتصل في نهاية الأمر وعلى أحسن تقدير إلى الحكم لك بأصل المبلغ الذي دفعته لهذا المحتال قبل أربع، أو خمس، أو حتى عشر سنوات أو أكثر.

وتكون النتيجة في حال حصولك على حكم مثل هذا، أن هذا المماطل المحتال هو المستفيد والمنتصر لا أنت !! نعم هو المستفيد – في الدنيا طبعاً – لأنه بدل أن يبادر بإعطائك حقك قبل عشر سنوات، أبقى هذا المبلغ في حوزته واستفاد منه في تجارة أو غيرها، واضطرك لمقاضاته وإضاعة المزيد من مالك وجهدك ووقتك حتى تحصل على حقك دون أي زيادة ولا تعويض !!.

إن واقع القضاء الحالي يعتبر خير مشجع لأمثال هؤلاء المحتالين على الاستمرار في احتيالهم، والمماطلين على مماطلتهم، لأنهم يعلمون أن القضاء في أسوأ الاحتمالات لن يحكم عليهم إلا بالمبلغ الثابت في ذمتهم، دون أن يلزمهم بتعويض صاحب الحق عن ماله ووقته وجهده الذي ضاع في سبيل مطالبتهم بهذا الحق .

ويعلمون أنه نادراً ما يُحكم على أمثال هؤلاء بأي تعزير وردع يجعل غيرهم يحسب ألف حساب للقضاء، وترتعد فرائصه متى ما هدده صاحب الحق بهذا القضاء.

بل حتى أتعاب المحاماة التي يتكبدها أصحاب الحقوق للمطالبة بحقوقهم الواضحة التي ما منعوا منها إلا مماطلة وتعنتاً، لا يُحكم لهم بهذه الأتعاب، وإن حكم بها فيُحكم بمبالغ زهيدة لا توازي المبلغ الحقيقي الذي التزم به صاحب الحق للمحامي.

وفي بعض الأحيان لا يقف الأمر عند انتهاء القضية بالحكم لصاحب الحق بحقه دون تعويض ولا ردع، بل قد يقع له أسوأ من ذلك بأن يفاجئه القاضي بطلب التنازل عن بعض حقه ومصالحة المدين المماطل أو المحتال بإسقاط جزء من الحق عنه . وهذا النوع من الصلح أقرب إلى الظلم الذي حرّمه الله منه إلى الصلح الذي أمر الله به ؛ متى ما ظهرت أمارات المماطلة والاحتيال على المدعى عليه، فيصبح حقه التغليظ عليه وتأديبه، لا الرأفة به وإعانته على ظلمه.

هذه القضية رغم مرارتها، وكثرة اكتواء الناس بحرارتها، وسوء تأثيرها على وضع القضاء لدينا، إلا أنها لم تحظ بما تستحقه من اهتمام وعناية من قبل القضاء الشرعي الذي يجب عليه التماشي مع حاجات العصر، وتوفير الحلول الشرعية للمشكلات العصرية، فالشريعة لا قصور فيها، ولا خلل، ولا يجوز أن نُقصّر في فهمها واستيعابها وتطبيقها بما يجرّ إليها التهمة والانتقاص.

وإن وزارة العدل وهي جادة في سبيل توفير الوسائل المعينة على تخفيف العبء عن المحاكم، وسرعة الفصل في القضايا، من توفير القضاة وأعوانهم وتأهيلهم وإمدادهم بالوسائل المعينة،

وما لها من جهود ملموسة مشكورة في إقرار العديد من الوسائل البديلة المساندة للقضاء، كالتحكيم والوساطة والمصالحة، وغيرها ؛ لمطالبة أيضاً بأن تعيد النظر في هذه القضية التي هي خير الوسائل للتخفيف عن القضاء، ألا وهي : إعادة النظر في الاجتهادات القضائية الحالية بما يحقق في الأحكام عنصر الردع والزجر للمماطلين المحتالين، وعنصر التعويض العادل للمتضررين من ضحاياهم. وأؤكد أنه بمجرد وصول القضاء إلى هذا المستوى سيتضح أثر ذلك جلياً في مبادرة الكثير من المماطلين إلى أداء ما عليهم من حقوق بمجرد التلويح لهم باللجوء للقضاء.

أسأل الله أن يوفق قضاءنا الشرعي لما فيه الصلاح والخير.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني