مكانة مهنة المحاماة بيد المحامين أنفسهم
مهنة المحاماة من أشرف المهن، عالمياً وفي شريعة الإسلام أيضاً، ففي دول العالم المتحضر ومنذ نشأة مهنة المحاماة كان للمحامين أدوارٌ رائدةٌ في إحقاق الحق وإقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات. وفي الشريعة الإسلامية تكون المحاماةُ وسيلة فاعلة لنصرة الظالم والمظلوم معاً كما في الحديث النبوي العظيم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوما). كما تكون المحاماة أيضاً من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب المشروع ضد أهل البدع والساعين بالفساد في الأرض، وهي أيضاً من التعاون على البر والتقوى. والمحامي كما يقال هو القاضي الواقف، أو ينبغي أن يكون كذلك، لأنه من أعوان القضاء وأنصار العدالة ويؤدي رسالة ً سامية قبل أن يكون صاحب حرفة يأكل منها ويحصل رزقه عن طريقها. وإذا ما استحضر المحامي كل هذه المبادئ الجليلة وآمن بها والتزم بما تفرضه عليه من آداب وواجبات، فإن ذلك لن يكون عائقاً له عن الحصول على رزقه بالطريقة التي تتوافق مع سمو رسالته ولا تخدش ديانته ولا أخلاقه ولا أمانته التي أؤتمن عليها. وكثيراً ما يتحدث المحامون عن تذمرهم من نظرة المجتمع للمحامي أو تعامل بعض القضاة أو الجهات العدلية والحقوقية معهم، ويطالبون بضرورة احترام دور المحامي وإنزاله منزلته التي يستحقها من التوقير والتعامل معه على أنه من أعوان القضاء ورجال العدالة. وهذا الكلام صحيح تماماً والشكوى لها ما يبررها من الواقع بلا شك، وأتفق مع تلك المطالبة بأن تكون للمحامي حصانة وضمانات وحماية تمكنه من أداء عمله والقيام بواجبات رسالته السامية لا يخشى في الحق لومة لائم كما في كل الدول المتحضرة التي وصلت لدرجاتٍ متقدمة في التنظيمات القضائية والحقوقية. إلا أن من العوائق التي تقف في وجه الوصول بمهنة المحاماة في المملكة إلى المكانة الرفيعة التي يفترض بها الوصول إليها، ما يصدر عن بعض المحامين من ممارسات لا تتفق مع شرف المهنة ولا تليق بمن ينتسب إلى مرفق العدالة. فحين كنت أعمل في القضاء خاصة القضاء التجاري، كنا معشر القضاة نعرفُ مجموعة من المحامين لا نفرح بوقوفهم أمامنا ولا نستبشر برؤيتهم في قاعات الجلسات، لما يتصف به بعضهم من صفات تؤثر سلبياً في سير القضية وتعيق تحقيق العدالة. ومن أبرز تلك المساوئ التي يمقتها القضاة في المحامي ما يلي: 1- اللجاجة في الخصومة وطبعها بالطابع الشخصي بحيث يتخلى المحامي عن دوره المفترض كأحد أعوان القضاء، ويأخذ منحى مناكفة الخصم والحدة في المطالبة أو الاستماتة في الدفاع بحق أو باطل عن موكله، ويستنكف عن الاعتراف بما يظهر له من حق ويأبى التسليم له مهما ظهرت دلائل ذلك الحق بل حتى لو تبين من المستندات ما يبطل دعواه فإنه يحاول الالتفاف عليها. 2- ما تؤدي إليه تصرفات بعض المحامين وأسلوبهم في إدارة ملف النزاع من جانب موكليهم من تعميق الخصومة بين المتنازعين واستبعاد أي فرض للصلح، بحيث تجد بعض المحامين أشد خصومة من موكله، مما يضطر بعض القضاة إلى طلب حضور الأصيل سعياً إلى تخفيف حدة الخصومة، وهذا مما يكون محل استياء المحامي ورفضه ويأخذ يحاجج القاضي بالأنظمة والتعليمات وهو لا يدري أن السبب وراء سوء سلوكه، وخروجه عن مقتضيات وآداب المهنة. 3- ومما يدخل في السياق نفسه أن بعض المحامين يترافع في القضية ويفترض من القاضي أن يوافقه في اجتهاده ورأيه ويذهب مذهبه فيما يدعيه، ويعتقد بعض المحامين أنه لا يقل فهماً عن القاضي بل قد يزيد على القاضي في العلم والفهم ويجد من نفسه أنه حين يبحث مسألة النزاع من النواحي الشرعية والنظامية ويصل فيها إلى قناعة معينة أن الحق أصبح محصوراً في الرأي الذي توصل إليه، وأنه لا يسع القاضي مجاوزة هذا الحق قيد أنملة، فإذا ما رأى من القاضي إعراضاً عن اجتهاده الذي يحاول إقناع القاضي به بدأ يشكك في القاضي والقضاء. وهذا النوع من المحامين إما أن يكون له نصيب في العلم والفهم كأن يكون متخصصاً في الشريعة أو القانون أو قاضياً سابقاً أو نحو ذلك فيأخذه العجب بعلمه وفهمه، حتى رأيت بعضهم يتعامل مع القضاة بفوقية وثقة في النفس متناهية، ويضع رجلاً على أخرى وهو يقول للقاضي: (هذه المسألة معروفة والحكم فيها واضح والفقهاء تكلموا فيها بكذا والرأي الراجح كذا)!!. وحتى أكون واقعياً فإنه قد يكون ما توصل له هذا المحامي فعلاً هو الحق والأقرب للعدل، وقد يكون القاضي الذي أمامه فعلاً أقل منه علماً وتجربة وفهما؛ إلا أن كل ذلك لا يشفع لأي محام أن يتصف بتلك الصفات ولا أن يسلك هذا المسلك الوعر للوصول إلى حقه الذي يعتقده. فإن في ضمانات التقاضي وطرق الاعتراض على الأحكام ما يغني المحامي عن اللجاجة في الخصومة وتجشم اتهام القضاة والإساءة إلى القضاء، فإذا استنفد المحامي كل تلك الوسائل وأصبح الحكم نهائياً على خلاف ما يريده فليس له إلا القبول به والتسليم وليكن عنده ولو قليل من اتهام النفس وافتراض الخطأ في الاجتهاد، أو على الأقل القبول بالرأي والرأي الآخر. وهذا لا يعني أن كل أحكام القضاء لا بد أن تطابق الحقيقة الواقعية فالقاضي يصدر حكمه باجتهاده ولاعتبارات شرعية ونظامية يجب عليه أن يلتزم بها ثم في آخر الأمر يكون القاضي مسؤولاً أمام الله عز وجل عن حكمه وموقوفاً يوم القيامة للحساب الدقيق عن كل أحكامه حتى كما ورد في الأثر: يتمنى القاضي العدل أنه لم يقض بين اثنين في تمرة. 4- ومن المسالك السيئة التي تظهر عند بعض المحامين أنه لا يتحلى بالواجب عليه في إعانته للقضاء ويحاول الالتفاف على طلبات المحكمة وإجراءاتها ومن ذلك أن بعض المحامين في القضايا التي يكون فيها وكيلاً للمدعي يبادر بحضور الجلسات وتقديم الإجابات والمستندات ويعيب على القاضي أي تأخير أو تراخ في نظر الدعوى، أما حين يكون وكيلاً للمدعى عليه في دعوى أخرى فإنه يتباطأ في الحضور ويكثر من التخلف عن الجلسات أو عن تقديم ما يطلب منه حتى يضطر القاضي لاتخاذ إجراء في حقه ومثل هذا النوع من المحامين سبق أن مر بي في أحد القضايا فكنت أرى منه اتباع الأسلوبين في قضيتين مختلفتين. 5- مبادرة بعض المحامين وتساهلهم في استعداء القاضي ومناكفته بل وتقديم الشكاوى ضد القاضي ولا شك أن بعض الشكاوى التي تقدم بحق بعض القضاة قد يكون لها ما يبررها إلا أن المحامي المتخصص المدرك هو الذي لا يتقدم بشكوى بحق القاضي ما لم يكن متأكداً من مجانبة القاضي للواجب عليه شرعاً أو نظاماً، وإلا فإنه يلحق بنفسه وبدعواه الضرر بالشكوى التي لا مبرر لها. وفي هذا الجانب أؤكد أن القاضي الذي يستشعر مسؤوليته أمام الله عز وجل وعظم الأمانة التي تحملها أنه يلتزم بالعدل حتى وإن أخطأ المحامي في حقه أو خرج عن الواجب عليه، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون ذريعة لأخذ الأمور بمأخذ شخصي والانتقام للنفس عبر إيقاع الظلم على بريء أو مخالفة العدل الواجب شرعاً، فإن النفس قد تستجيب لنوازع شيطانية وتنطلق في طريق التشفي والانتقام على حساب العدل والحق، وهذا مزلق خطير ينبغي لكل قاض أن يحذره تقوى الله عز وجل ومراقبة له سبحانه وخوفاً من الوقوف بين يديه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. هذه نماذج من سلوكيات بعض المحامين التي تتعارض مع واجبات المهنة وتسيء إليها، لاحظتها خلال عملي في القضاء. أما حين دخلت ميدان المحاماة فاطلعت على صور أخرى من الممارسات الخاطئة لبعض المحامين ومنها مثلاً: 1- محاولة إقناع العميل وإيهامه بأن المحامي يملك علاقات مع القاضي الذي لديه الدعوى أو مع بعض القضاة ممن يمكنهم التدخل في الدعوى، بل إن بعض أصحاب الدعاوى حين عرضوا علي قضاياهم كانوا يؤكدون لي أن المحامي الفلاني وعدنا خيراً وضمن لنا نجاح الدعوى و.. إلخ. 2- قبول المحامي وأخذه عددا كبيرا من القضايا التي تفوق طاقته أو حتى بعيدة عن تخصصه واكتفاؤه بأخذ مبالغ مالية مقدماً من العميل ثم لا يولي القضية ما تستحقه من بحث ودراسة والتزام بحضور جلساتها ويسيء إلى صاحب الدعوى وسمعته وسمعة المهنة. ومع وجود هذه الممارسات وبقدر ما تكون منتشرة فإن ذلك بلا شك لا يساعد على تحقيق المكانة اللائقة لمهنة المحاماة واحترام المجتمع لها. ومع أن هذه الممارسات والأخطاء موجودة في الواقع إلا أني أرجو أن تكون هي الأقل وأن الغالب – بإذن الله – وجود محامين لهم مكانة عالية في هذا الميدان ويتصفون بأعلى صفات الكفاءة والنزاهة والاقتدار وممن تعلق عليهم الآمال أن ينهضوا بمهنة المحاماة ويصلوا بها إلى المستوى المأمول والله تعالى ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل.