موقف الجهات الحكومية من القضاء الإداري

القضاء الاداري
مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

من المعلوم بداهة ً أن رقابة القضاء على أعمال الإدارة تعدّ أهم وأجدى صور الرقابة وأكثرها ضمانا لحقوق الأفراد وحرياتهم لما تتميز به الرقابة القضائية من استقلال وحياد . وقد أخذت جميع دول العالم حديثاً بمبدأ إخضاع تصرفات إداراتها الحكومية للرقابة القضائية عبر قضائيْ الإلغاء أو التعويض سواء كان ذلك عبر القضاء العام أو القضاء الإداري المستقل ، ذلك أن هذا التوجه هو الفارق بين الدولة التي يسود فيها القانون ويحكم جميع مرافقها، وبين الدولة التي تأخذ بالشكل البوليسي الذي لا يعترف بالنظام ولا القانون ، إلا أن الدول تتفاوت فيما بينها في تفعيل رقابة القضاء على أعمال وتصرفات إداراتها، وفي تطبيق ما يصدر عن القضاء من أحكام في مواجهة أجهزة الدولة وذلك بحسب تحضر الدولة ومدنيتها وحرصها على العدل .

ومع أن جميع الدول اعترفت بهذا المبدأ واختارت الأخذ به إلا أنه ما يزال هناك نوع من عدم الارتياح أو التوتر في العلاقة بين القضاء الإداري، وبعض الأجهزة الحكومية والوزارات . وتظهر صورة هذا التوتر وعدم الانسجام في تباطؤ كثير من جهات الإدارة وعدم تعاونها مع القضاء الإداري في ثلاث نواحٍ أساسية هي : (حضور الجلسات القضائية – تلبية طلبات القضاء من تزويده بالمستندات أو الوثائق التي يطلبها – تنفيذ الأحكام) وما تزال هذه الجوانب محل إشكالٍ كبير يعوق القضاء الإداري عن القيام بدوره الذي وُجدَ لأجله .

ومما يؤسف له أن هذه الإشكالية موجودة لدينا في المملكة وتصلُ لدرجة مقلقة تبرز في كثير من الوقائع والقضايا التي يظهر بعضها عبر وسائل الإعلام ويخفى كثيرٌ منها ، ولعل لهذه الإشكالية عدة أسباب وعوامل ليس هذا محل بسطها واستقصائها إلا أنه لا ينبغي إغفالُ معالجتها على أعلى المستويات لأن ذلك هو السبيل الوحيد لكفالة الحقوق وصيانة الحريات وكبح جماح التعدي عليها بحجة المصلحة العامة التي تتذرع بها بعض الجهات الحكومية أحياناً وتستخدم ما لديها من سلطة على الناس فتضع السيف في موضع الندى، أو تستهدف مصالح شخصية تحت ستار المصلحة العامة .

وفي تأملٍ لأبرز أسباب عدم ترحيب بعض الجهات الحكومية بدور القضاء الإداري وجدت ُ أن أبرزها في ما يلي :

- طغيان العنصر الشخصي واستقلال المسؤول الأول في الوزارة أو الإدارة الحكومية بالقرار الإداري وأنه لا وجود للعمل المؤسسي في كثير من الوزارات والمصالح الحكومية فكل جهة تخضع لتوجه ورأي المسؤول الأول فيها فقط ، وأنه حتى لو حاول بعض المسؤولين الاستعانة بفريق العمل فإنه في الحقيقة يختار أعضاء هذا الفريق من بين أكثر الناس ولاء ً شخصياً له وانسياقاً تاماً معه في كلّ ما يطرحه أو يعتقده من آراء بحيث لا تكاد تسمع صوت معارضٍ أو منتقد داخل فريق معالي الوزير أو سعادة المدير . وهذا الأمر جعل كثيراً من المسؤولين يرى في أحكام ديوان المظالم مساساً برأيه الشخصي وباجتهاده وحطاً من قدره ومعارضة لتوجهه فيمقت هذه الأحكام ويتأبى عليها ويشكك في توافقها مع المصلحة أو التطبيق الصحيح للقانون والنظام وأخشى أن يكون في داخله يشكك في نزاهة القاضي أيضاً.

- أنه اجتمع مع طغيان العنصر الشخصي في قيادة الجهات الحكومية ضعفٌ كبير لدى بعض المسؤولين في الثقافة القانونية بحدها الأدنى ، وعدم تفهم لطبيعة القضاء الإداري ومنطلقاته وقواعده العامة ، وهذا الضعف ينتج آثاراً سيئة على كثير من قرارات وتصرفات الجهة الحكومية ويؤثر سلباً في موقفها من ديوان المظالم إذ تنظر إليه على أنه يتدخل في صلاحياتها وسلطتها التقديرية، ويعيق قيامها بمسؤولياتها على الوجه المحقق للمصلحة العامة .

- أنه مع عدم تفعيل الإدارات القانونية في كثير من الوزارات والجهات الحكومية وتهميش دورها الذي يقتصر غالباً على معالجة ما يقع من اخطاء وتجاوزات المسؤولين في الوزارة بعد قيام الدعوى الإدارية ؛ إلا أنه علاوة على ذلك أيضاً تجد كثيراً من الإدارات القانونية في الجهات الحكومية تفتقر للكفاءات المؤهلة القادرة على تفعيل أحكام القانون وتقديم الرأي النظامي الصحيح قبل اتخاذ القرار ، أو حسن معالجة الإشكالات التي تنشأ في الدعاوى الإدارية؛ بحيث تكون الإدارة القانونية في أي وزارة مؤهلة وقادرة على التعاون الأمثل مع القضاء الإداري وفهم متطلباته وإعانته على القيام بدوره على خير وجه لا أن يكون ممثل الجهة الحكومية عائقاً في وجه العدالة بقصدٍ أو دون قصد . وفي هذا السياق تجدر الإشادة بتجربة وزارة الصحة في التعامل مع هذا الملف حيث أخبرني معالي وزير الصحة الدكتور عبدالله الربيعة في لقاء سابق بمعاليه أنه وجّه بتقديم مكافأة لكل مستشار قانوني في الوزارة يترافع في إحدى القضايا أمام ديوان المظالم ويحقق النجاح فيها إذا كانت من الدعاوى المالية وذلك بصرف مبلغ يعادل نسبةً مئويةً من مبلغ القضية ، كما أخبرني معاليه أنه يسعى للتواصل مع ديوان المظالم للنقاش حول القضايا المشتركة بين القضاء ووزارة الصحة ..

ولا شك أن لذلك عظيم الأثر في ردم الفجوة بين القضاء والوزارة بما يحقق المصلحة العامة .

وبعد ما سبق إيراده أؤكد على أن هذا الموضوع من أهم المواضيع وأولاها بالعناية والمعالجة ، وأقترح على غرار توجّه ِ معالي وزير الصحة أن يعقد بين قضاة ديوان المظالم وبين المسئؤولين في الجهات الحكومية والوزارات عدة لقاءات دورية لتقريب وجهات النظر وليطلع كل طرف على منطلقات الآخر. كما أقترح أن يصدر ديوان المظالم بشكلٍ دوريّ تقريراً يبين فيه مستويات الجهات الحكومية التي ينظر الدعاوى ضدها ومدى استجابة كل جهة من عدمه وهذا يعطي نوعاً من الرقابة للمجتمع والأجهزة الحكومية الرقابية على تلك الإدارات، وسيكون في حال تطبيقه خير سبيل لحث الإدارات على التجاوب مع القضاء .

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه .

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني