وقفوهم إنهم مسؤولون
صعبةٌ هي المواقف التي يتعرض لها الإنسان في حياته، التي يُناقش فيها، أو يهاجم أو يُحققُ معه، أو يُحاسب، عن أعمال عملها، أو أقوال صدرت عنه.
وتتنوع وطأة وقوة هذه المناقشة أو الحساب أو الهجوم، بحسب صفة القول والفعل أو مكانة وصفة الفاعل أو القائل.
وقد يمتلك ذلك المُتعرِّض للحساب أو المناقشة أو الهجوم أدوات أو وسائل تساعده على الخروج من المأزق وتخفيف حدة الهجوم أو المناقشة والحساب؛ سواء كانت مُحاسبته أو الهجوم عليه بحق أو بباطل، وسواء كان يدافع عن نفسه بقول الحقيقة أو بتزييف الحقيقة.
فمثلاً صرّح مسؤول أو وزير بتصريح تعرض على إثره لهجوم الناس وانتقادهم.
أو أفتى عالم أو فقيه أو طالب علم بفتوى لقي بسببها الكثير من الانتقاد والإنكار.
أو كتب كاتب مقالاً عصفتْ على إثره عواصف الناقدين، وتصدت للنيل منه أقلام وأصوات المعارضين.
أو صرّح إعلامي بفكرة أو رأي لم يكن يدري أنه سيخلق له من الأزمات والإشكالات ما تمنى لو أنه سكت فلم يقله.
وفي الآونة الأخيرة أصبحت وبكل أسف هذه هي سمة المجتمع، فما نكاد ننتهي من عاصفة حتى تهبّ أخرى، بل أصبحت العواصف يتداخل بعضها مع بعض في وقت واحد حتى ترى أفراد المجتمع في لجج وخصومات ومشاحنات يمتعض منها العاقل، وتقض مضجع الناصح.
ومما يزيد الأمر سوءاً سببان رئيسيان هما:
أولهما: أن كل أحد مهما كان مستواه من الفهم والعقل والعلم، حتى ولو كان من أقل الناس تعليماً وأكثرهم جهلاً وسفاهة، لا يتردد من المشاركة بموقف أو تعليق أو مناقشة لمثل هذه الأمور. سيما في ظل توافر الوسائل الحديثة التي أتاحت لكل أن يدلي برأيه وأن يتحدث فيسمعه الكثيرون، بينما كان في السابق لو تحدث لما التفت لقوله أحد من المحيطين به العارفين بمستوى فهمه وعلمه وعقله.
الثاني: أننا أصبحنا نرى حالة من التهييج والتداعي بين هؤلاء الناس وتشجيع بعضهم لبعض على الدخول في هذا المعترك وإذكاء نار الخلاف والفتنة. بدعوى إنكار المنكر أو استعمال حق حرية التعبير والمشاركة بالرأي.
ثم ترى في كل يوم محاكمات قائماً سوقها، في مواقع الانترنت، وفي مجالس الناس، وفي وسائل الإعلام، كلها من هذا القبيل. هجوم ودفاع، نقاش وتبرير، إعلان توبات وتقديم اعتذارات، أو تصحيح فهم وتعديل مقولات، أو مطالبات بعزل أو قتل، أو وصف بفساد أو بدعة أو حتى كفر.
لم يسلم من هذه الدائرة أحد بدءاً من القادة السياسيين والحكام، إلى العلماء والدعاة، إلى الكُتّاب والإعلاميين والمثقفين والأدباء والشعراء.
فأصبح المجتمع تنّوراً يغلي، وأوغرت الصدور، وتباعدت المواقف، وأصبحنا ما منّا أحد إلا هاجماً أو مهجوماً عليه، أو منتقِداً أو منتَقدا، دون مراعاة ضوابط الشريعة في النقد، ولا حرمة الأعراض وحقوق المسلمين بعضهم تجاه بعض، ولا قواعد الأخلاق في النقاش، ولا احترام التخصص.
ولا أدري أين ذهبت عنا عقولنا؟ أو كيف تناسينا قواعد شريعتنا التي تحكم مثل هذه الأحوال؟
إنَّ كلّ من كان طرفاً في هذه المعركة سيخضع لحساب وسؤال أشدّ وأشق وأعدل وأدق، من حساب الناس بعضهم لبعض.
سواء كان المسؤول الذي صرّح بذلك التصريح، أو العالم الذي أفتى بالفتوى، أو الكاتب والإعلامي الذي طرح رأيه، أو الشاعر الذي قال قصيدته ونشرها.
وبنفس مستوى الحساب، دقّته وشدّته وعدالته، سيقفُ من انتقد هؤلاء أو تعرّض لهم بسب أو تفسيق أو تكفير أو إيذاء ٍ قولي أو فعلي.
كل ّ هؤلاء سيقفون على الحساب، وسيقتص الله عز وجل لبعضهم من بعض.
إن كلّ مُسلم مطالب أن يتذكر شدة حساب الله وسؤاله، قبل أن يفكر في قسوة هجوم المجتمع عليه أو إيذائهم له، لأن هجوم المجتمع واعتراضهم، قد لا يكون دليلاً على خطأ أو ضلال القول أو الفتوى أو الرأي، كما أن أذى المجتمع يزول مع الأيام لأن الناس من عادتهم النسيان، ثم إن أثر وشدة هذا الهجوم لا يتجاوز هذه الحياة الدنيا، فلا تلحق الإنسان إلى آخرته.
أما شدة سؤال الله وعظمة حسابه فهي الحقيقة بالتذكر والأولى بالتوقي.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
أسأل الله عز وجل أن يمنّ علينا بصلاح أحوالنا، وأن يجمع ما اختلف من قلوبنا وآرائنا على الحق، وأن لا يزيغ قلوبنا فنهلك.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.