أحكام التعويض تحتاج إلى إعادة نظر
يكثر الحديث والجدل عن واقع القضاء السعودي وطريقة تعامله مع أحكام التعويض ودعاوى الضرر. وعند تتبع جميع الأحكام التي عالجت هذه القضايا نجد أنها لا تخرج عن ثلاثة أنواع من الأحكام: إما أن يكون الحكم بتعويض عن ضرر مادي ثابت، وفي هذه الحال لا تكون الأحكام غالباً مستوعبة لجميع جوانب الضرر، أو غير ملائمة لحجم الضرر الواقع على طالب التعويض. وإما أن تكون برفض دعوى التعويض وذلك في الأضرار المعنوية خصوصاً وفي بعض الأضرار المادية التي لم تثبت للقضاء على وجه القطع واليقين. والنوع الثالث، أن يحكم القضاء برفض دعوى التعويض عن الأضرار المادية الثابتة، بحجة عدم قدرة المدعي على إثبات حجم الضرر على وجه الدقة والتفصيل. (وهذا من أغرب الأحكام وأبعدها عن روح الشريعة ومقاصدها، وسيأتي بيان ذلك). وباستعراض هذه الأحكام القضائية يتضح لنا بجلاء ما يترتب عليها من إهدار لكثير من الحقوق، وإقرار لكثير من المظالم، وإبقاء لكثير من الأضرار التي جاءت الشريعة الإسلامية بوجوب رفعها، فالضرر في الشريعة واجب الرفع والإزالة والجبر والتعويض بما يغلب على الظن أنه ينجبر به. وحتى لا يكون كلامي هذا ذريعة لاتهام القضاة أو النيل من علمهم واجتهادهم، أؤكد أنهم لا يتحملون وزر التقصير في هذا الجانب، خاصة قضاة المحاكم الابتدائية، فإن هذه المسألة من المسائل العويصة التي يرجع القصور فيها إلى أنها طارئة على محاكم المملكة نسبياً، فلم يكن في السابق اهتمام من الناس ووعي بدعاوى التعويض كما هو الواقع اليوم، كما أن القضاة في المملكة تخرجوا في كليات الشريعة التي تدرس الفقه الإسلامي بالطريقة التقليدية التي تعتمد أسلوب التلقين، ولا تشجع على البحث والاجتهاد مطلقاً. وإلا فالشريعة الإسلامية كانت أسبق من القوانين الوضعية في تقرير القواعد العامة التي تكفل إزالة الضرر وتعويض المتضرر، بما يكفل حفظ الحقوق وصيانتها. والحديث في هذا الموضوع طويل لا يتسع له المقام، ويستحق سلسلة من البحوث والمقالات، ومن المحزن أن كثيراً من الرسائل العلمية والبحوث الفقهية تعرضت له، ودرسته بعمق، وتوصلت إلى توصيات ونتائج لو تم تفعيلها وربطها فعلياً بعمل القضاء، لأشرقت ساحات المحاكم بأحكام تكشف الوجه المضيء لشريعة الإسلام وعدالتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان واستيعابها لمصالح الخلق، وقدرتها على إيجاد الحلول الناجعة لجميع النزاعات والنوازل والمستجدات. لذا فإنه لا يمكن توجيه اللوم للقضاة وحدهم في هذا الضعف والقصور، ذلك أن القضاء في المملكة وإن كان قائماً على الاجتهاد وعدم تقنين الأحكام، إلا أنه يصعب على القاضي في الحكم الابتدائي أن يجتهد في هذه المسألة اجتهاداً مغايراً لما استقرت عليه أحكام القضاء في السابق، وما كان مألوفاً وسائداً من الأخذ بقواعد سبق للقضاة قديماً أن قرروها وألزموا بها ظناً منهم بأنها هي مقتضى الشرع، وأن القول بخلافها يعد مصادمة للشريعة. وحتى لو كان القاضي متحلياً بقدر من الفهم والاستقلالية في الاجتهاد، وحاول تقرير مسألة خلاف ما تعوده القضاة في محاكم التمييز أو التدقيق أو الاستئناف، فإنه سيواجه ممانعة واستنكاراً لاجتهاده، لخروجه عن المألوف من أحكام القضاء. وإن كنت أدعو القضاة إلى بحث هذه المسألة والاجتهاد فيها والحكم بما يرونه موافقاً للشرع والثبات على ما يعتقدونه حقاً لعلهم يسهمون في تصحيح القصور الحالي. لعل ذلك أن يكون باعثاً لنية جادة وعزيمة صادقة لبحث هذه المسألة الشائكة، بعد استشعار مدى الضعف والسلبية في معالجتها، وعقد اللقاءات بين القضاة في المحاكم الابتدائية وقضاة الاستئناف، وإدارة الحوارات، وإعداد البحوث، وتشجيع الاجتهادات التي تسهم في مراجعة ونقد القواعد القضائية التي يجري الأخذ بها حالياً لدى جميع محاكم المملكة في دعاوى التعويض، وإعادة تقييم هذه القواعد، والتحقق من مدى ملاءمتها لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها، ومدى كفايتها في حفظ الحقوق وجبر الأضرار، دون تعصب للسائد القديم والمألوف العتيق من الأقوال الفقهية التي لم تعد صالحة للتطبيق. بل إنه ليؤسفني القول إن في بطون كتب الفقهاء السابقين من فقهاء الإسلام في القرون السابقة أقوالا واجتهادات فقهية، أكثر مرونة وسعة واستيعاباً لمصالح الناس اليوم من الأقوال والاجتهادات التي يجري الأخذ بها في المحاكم لدينا في هذا الزمان. وإن ما أنادي به وأؤكد عليه، أنه يجب الحذر بأن نكون سبباً في اتهام الشريعة الإسلامية الربانية العالمية بعجزها عن إيجاد الحلول لما يطرأ على الناس من مشكلات وعدم مواكبة ما يستجد من نوازل العصر ومتطلباته. وفي هذا السياق يحضرني كلام نفيس للإمام ابن القيم – رحمه الله – إذ يقول: ( وزعموا أن الشرع ناقص لا يقوم بمصالح الناس وجعل أولئك ما فهموه من العموميات والإطلاقات هو الشرع وإن تضمن خلاف ما شهدت به الشواهد والعلامات الصحيحة, والطائفتان مخطئتان في الشرع أقبح خطأ وأفحشه وإنما أتوا من تقصيرهم في معرفة الشرع الذي أنزله الله على رسوله وشرعه بين عباده كما تقدم بيانه فإنه أنزل الكتاب بالحق ليقوم الناس بالقسط ) – الطرق الحكمية -. ومن الأسس التي أدعو إلى إعادة النظر فيها ما يلي: أولاً: في الأحكام التي تتضمن التعويض عن ضرر مادي ثابت، يجب إعادة النظر في آلية تقدير هذه التعويضات بما يتناسب مع حجم الأضرار الفعلية التي لحقت بالمتضرر، وبما يتضمن معنى الزجر أيضاً للمعتدي، وفي هذا المعنى يجب إعادة النظر في تقدير الدية المعمول به حالياً، فلا تكون دية المسلم 100 ألف ريال، في حين تقام مهرجانات بيع مزايين الإبل بملايين الريالات، ويقال إن هذا حكم الشريعة!! كما لا يليق أن تكون دية المرأة المسلمة 50 ألف ريال، وهذا المبلغ اليوم لا يبلغ قيمة سيارة من أقل السيارات جودة وأردئها صنعة ونقول إن هذا حكم الله ورسوله، وشريعة الإسلام تجعل حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة. ومن هذا النوع أيضاً يجب إعادة النظر فيما يحكم به من تعويضات عن الأخطاء الطبية، فلا يجوز أن يحكم في خطأ طبي نتج عنه عدة إعاقات لمريض وإتلاف بعض منافع جسده، بمبلغ مالي يعادل دية أو جزءاً من دية، في حين لا يلتفت إلى ما ترتب على هذا الخطأ الطبي من اضطرار المريض أو ذويه إلى صرف مبالغ طائلة لتأهيله مع إعاقته وما فات عليه من منافع جوارحه وأعضائه التي أصابها التلف، ومع ذلك نقول إن هذا هو حكم الشريعة!! ثانياً: فيما ترفض فيه دعوى التعويض عن الأضرار المعنوية بدعوى كونها ليست إتلاف مال أو ما يمكن تقويمه بمال، فهذه حجة باطلة، ومن الجور نسبة هذه القاعدة التي لا أصل لها في دين الله إلى الشريعة، واعتبارها قاعدة لا تقبل البحث أو الجدل. بل إن الثابت من نصوص الشريعة أن الحقوق المعنوية محل عناية الشريعة واعتبارها، وأنه يمكن التعويض عنها بمال، ومن ذلك حديث زيد بن سعنة حين جاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال له: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتم ـ بني عبد المطلب ـ إلا مطلاً، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، فقال عمر رضي الله عنه: يا عدو الله: أتقول لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فو الذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك. فقال ـ صلى الله عليه وسلم: ''يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فأعطه حقه، وزده 20 صاعا من تمر مكان ما رعته'' أخرجه الطبراني وابن حبان والحاكم. وهذا الحديث أصل في التعويض عن الضرر المعنوي وذلك في أمره عليه السلام بتعويض الرجل 20 صاعاً من تمر مقابل ترويعه. كما أن هذا الحديث أصل في أن تقدير التعويض في هذه الحال يكون جزافياً حسب اجتهاد القاضي وما يراه محققاً للمصلحة جابراً للضرر. ثالثاً: فيما يخص الضرر المادي الذي لم يستطع المضرور إثباته بشكل قطعي، فإن المسلك الأقرب لقواعد الشريعة أن يأخذ القاضي في إثبات هذا الضرر بالقرائن وشواهد الحال، وما يجري عليه العرف في مثل هذه الأحوال وما يقتضيه الحس والواقع، ثم يقضي في ذلك بما يصل إليه من غلبة ظن، وهي معتبرة في الشريعة، إذ ليست كل الأحكام تبنى على القطع واليقين، وإلا لما جاز الحكم بناء على شهادة شاهدي عدل، لاحتمال خطئهما أو حتى كذبهما. رابعاً: إن من أبعد الأحكام عن قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، أن يحكم القاضي برد دعوى التعويض بعد تحققه من وقوع الضرر، بحجة عدم استطاعة المدعي إثبات حجم الضرر الذي لحق به على وجه الدقة، وقد مر بي في أحد الأحكام الصادرة عن دائرة إدارية في ديوان المظالم قول الدائرة: (وحيث إنه ثبت للدائرة وقوع الضرر على المدعي جراء تأخر الجهة المدعى عليها عن صرف المستخلصات الشهرية فترات طويلة، إلا أنه نظراً لكون المدعي لم يستطع إثبات حجم الضرر اللاحق به على وجه الدقة، فإن الدائرة تنتهي إلى عدم أحقيته في الحكم بالتعويض)!! فهذا الحكم تضمن جناية على الشريعة بأن أهدر حق المضرور في جبر ضرره، وقرر إبقاء الضرر اللاحق به دون تعويض خلافاً لحكم الله ورسوله، بدعوى عدم إمكان تقدير التعويض المناسب أو عدم قدرة المدعي على إثبات حجم الضرر. ولا ريب أن تقدير التعويض مسألة تختلف عن التعويض، ومتى تقرر الحق في التعويض فإن تقديره إن لم يمكن على وجه الدقة والقطع، فإنه يحكم بتعويض جزافي يقدره ناظر الدعوى بما يراه محققاً للمصلحة جابراً للضرر، كما ورد في فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم. وأعيد التأكيد على أهمية وخطورة هذا الموضوع لمساسه بصورة الشريعة الإسلامية، والقضاء القائم على أحكامها، وكم أتمنى أن يعاد النظر في بحث هذه المسائل طاعة ونصحاً لله ولدينه ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورحمة بعباد الله، وما توفيقي إلا بالله هو حسبي ونعم الوكيل.