القاضي الإداري حارس المشروعية

مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

يمثل مبدأ المشروعية في الدولة صمام الأمان لحقوق الأفراد وحرياتهم، والمقصود بهذا المبدأ خضوع الأفراد والدولة جميعاً لحكم القانون، بدرجة ٍ متساوية، وكما يذكر شراح القانون أن هذا المبدأ هو الفارق الرئيس بين الدولة القانونية والدولة البوليسية. وقد يفهم غير المتخصصين من استخدامي لعبارة (القانون) أني أعني القوانين الوضعية المخالفة للشريعة، وهذا المعنى غير مقصود لي، فدولتنا بفضل الله قائمة ٌ على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة دون استثناء، والقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة هما دستور هذه البلاد الطاهرة والحاكمان على كل أنظمتها، وإنما مقصودي بعبارة القانون (هو أنظمة الدولة التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية)، والتي تعتبر داخلة في حكم الشريعة. وحتى أزيل الالتباس تماماً أوضح للقارئ الكريم، أن مصطلح (مبدأ المشروعية) في فكرته ومضمونه يعد مبدأ إسلامياً خالصاً، حيث جاءت شريعة الإسلام قائمة على إلزام الحكام والمحكومين بأحكام الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد مخالفتها بأي شكل من الأشكال، وأن ولي الأمر المسلم يجب عليه إلزام نفسه بتطبيق أحكام الله - عز وجل - في خاصة نفسه، وفي أهل بيته، وفي تعامله مع أفراد رعيته، ومن هذا المنطلق قرر فقهاء الإسلام – رحمهم الله – القاعدة الفقهية المشهورة التي تعد إرساء ً لمبدأ المشروعية قبل أن يكتشفه القانون الوضعي بقرون عديدة، وذلك في قولهم: (تصرف الإمام على الرعية منوط ٌ بالمصلحة). إذاً فإن مبدأ المشروعية يعتبر مبدأ محترماً في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، وحتى يكون هذا المبدأ سائداً وقوياً يذكر شراح القانون أن لذلك ثلاثة شروط أساسية هي: 1- الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات (السلطة التشريعية – السلطة القضائية – السلطة التنفيذية) فإذا اجتمعت هذه السلطات الثلاث في جهة واحدة حيث تضع قوانينها بنفسها وتتولى تطبيق هذه القوانين ويتبع لها جهة ٌ قضائية تنظر في منازعات الأفراد معها، فإن ذلك يؤدي إلى انهيار مبدأ المشروعية واستيلاء التعسف وانتهاك الحقوق على هذه الجهة لانعدم أوجه الرقابة عليها. 2- التحديد الواضح لسلطات واختصاصات جهات الإدارة، ذلك أن جهة الإدارة هي محل الإشكال دائماً لأنها السلطة الأكثر احتكاكاً بالأفراد ومساساً بحرياتهم ومصالحهم اليومية وحقوقهم، فالسلطة التنفيذية الإدارية هي التي تتولى المحافظة على النظام العام، وتحقيق المصلحة العامة، ولأجل ذلك تم منحها وسائل تميزها عن الأفراد لتمكينها من القيام بمهمتها، وهذه الوسائل تجعل الأفراد ملزمين بالخضوع لتصرفاتها وسلطتها، مما يوجب ضبطها باختصاصات وصلاحيات دقيقة واضحة المعالم، تكون هذه الاختصاصات هي المعيار الذي يمكن من خلاله فرض الرقابة التامة على مشروعية أعمالها وتصرفاتها. 3- وجود رقابة قضائية فاعلة تتولى محاسبة من يخالف قواعد القانون وحدود النظام والتحقق من مشروعية قرارات جهات الإدارة. والقضاء الإداري هو المعني بحراسة مبدأ المشروعية وإنصاف الأفراد من تجاوزات السلطة الإدارية لحدود اختصاصاتها، أو مخالفتها لقواعد القانون العام. ولذلك فقد جاءت جميع الأنظمة الحديثة بإعطاء القاضي الإداري صلاحيات أوسع بكثير من صلاحيات القاضي العادي، وأجازت له التدخل في سير عملية التقاضي وتوجيه إجراءات الدعوى بطريقة تحقق التوازن بين طرفي الدعوى، وذلك بخلاف القاضي العادي الذي يجب عليه أن يقف موقفاً محايداً بين طرفي الدعوى، وسبب ذلك أن الفرد في مخاصمته لجهة الإدارة يكون غالباً في موقف الضعيف أمام جهة تمتلك وسائل كثيرة تجعلها في موقف القوي المتحكم، وأهم أسباب ضعف الفرد أمام جهة الإدارة في الدعوى الإدارية أنها هي التي يمتلك وسائل الإثبات المؤثرة في الحكم. وهذا الكلام لو استرسلت في بيانه لطال بي المقام، ولكن الغاية من حديثي هذا هي دعوة أصحاب الفضيلة قضاة ديوان المظالم – وفقهم الله – إلى الحرص على تحقيق هذه الغاية على أحسن وجه، والاستفادة من ظروف المرحلة الحالية التي تعد بحق مرحلة حاسمة وتاريخية في تكوين صورة القضاء عموماً والقضاء الإداري خصوصاً في المملكة، فخادم الحرمين الشريفين – أيده الله – قد أعطى كثيراً من حرصه واهتمامه ودعمه لمرفق القضاء، وقدم للبيئة الحقوقية في المملكة ما كانت تحتاج إليه لتحقيق النهضة القضائية العدلية الحقوقية، وأهاب بكل القائمين على المرافق القضائية أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة في هذه المرحلة، كما أن القضاء العام على أهميته وجلالة قدره، ربما لا يحتاج إلى كثير من الجهد لتحقيق غاياته، لأنه قضاء مستقر المعالم ثابت الأسس، أما القضاء الإداري فإنه بأمس الحاجة إلى استلهام الغاية المرجوة منه، ومسؤوليته العظمى في حفظ حقوق الناس وحماية حرياتهم من أي تعسف أو اعتداء يقوم به أحد موظفي الإدارة باسم المصلحة العامة، أو باسم النظام. والقضاء الإداري حتى يقوم بدوره على أحسن وجه يحتاج إلى أن يرتكز على مجموعة من القواعد والمبادئ القضائية الراسخة الواضحة المعالم التي تتناسب مع هيبته وتوسع صلاحياته، وتتلاءم مع الأساس الذي يقوم عليه في كل أنظمة الدول المتحضرة، وقبل ذلك في شريعة الإسلام. إن ولاة أمر هذه البلاد قد اختاروا للقضاء الإداري اسماً عظيماً جليل القدر كبير المغزى هو (ديوان المظالم) وهذا الاسم المنبثق عن تاريخ الإسلام وعدالة القضاء الإسلامي لم يأت ِ من فراغ، وليس مجرد تسمية فارغة المعنى، وإنما هو توجيه ٌ صريح بأن يكون القاضي الإداري في المملكة يجمع إلى مزايا القاضي الإداري في سائر الدول الحديثة مزايا قاضي المظالم أو والي المظالم في التاريخ الإسلامي. والذي يذكر الفقهاء في وصفهم له بأنه ينبغي أن يكون: (شديد الهيبة بالغ السطوة قوياً في غير عنف ليناً من غير ضعف). والقاضي الإداري الحديث وإن كان يختلف في صلاحياته وطبيعة اختصاصه عن قاضي المظالم في الإسلام، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون سبباً للفصل التام بينهما وإلغاء الجذور والقواسم المشتركة بين القضائيين. كما أن القاضي الإداري في المملكة قد اجتمع له من الأسباب المعينة على البلوغ بهذا القضاء إلى أعلى المراتب، ما يميزه عن سائر القضاة الإداريين في أي بلد. وأعظم هذه الأسباب أن الحكم في بلادنا يستند إلى الشريعة الإسلامية وكفى بذلك فخراً واعتزازاً وشرفاً، وكفى به محرّضاً ومعيناً للقاضي الإداري على ألا تأخذه في الحق لومة لائم منطلقاً من شرع الله وحكمه ـ عز وجل، ثم من ثقة ولاة الأمر وتشجيعهم ودعمهم لديوان المظالم وأحكامه. لقد أثبتت كثير من الوقائع قديماً وحديثاً أن قادة هذه البلاد حريصون أشد الحرص على إنفاذ ما يصدر عن ديوان المظالم من أحكام ودعمه بالقوة اللازمة أمام أي جهة تحاول التعصي على أحكامه أو التبرم منها، وكل قاض ٍ في ديوان المظالم يعرف هذه الحقيقة جيداً. كما أن من أهم الأسباب المشجعة على اغتنام المرحلة الحالية والاستفادة القصوى منها لبناء قضاء إداري فاعل وإيجابي، ومهاب الجانب، أن رئاسة الديوان حالياً يقوم عليها رجل ٌ عرف عنه القاصي والداني، قوته في الحق، واتصافه بصفات يندر أن تجتمع في قاض أو مسؤول، فقد أبدى الشيخ إبراهيم الحقيل – وفقه الله – منذ رئاسته للدائرة التجارية الثانية في ديوان المظالم سنين عديدة الكثير من السمات الشخصية النادرة في حسن القضاء، والقوة في الحق، والقدرة العجيبة على الجمع بين حفظ هيبة القضاء مع تحقيق العدل والحكم بالحق. بل لا أبالغ حين أقول إن فضيلته كان يجمع (صفات القضاء مع صفات الإمارة) في آن ٍ واحد. ومن آثار ذلك أن معالي الشيخ الحقيل بعد رئاسته للديوان اتخذ عدداً من القرارات الهادفة إلى حفظ هيبة قضاة الديوان وحماية جانبهم من أن يناله أي تعد ٍ أو تطاول، وأحال عدداً من المحامين أو أطراف الدعاوى إلى هيئة التحقيق والادعاء العام ممن ظهر منهم تطاول ٌ على القاضي أو اتهام له بغير حق، ومثل هذه التجاوزات كانت في السابق تمر مرور الكرام مع مساسها الخطير بهيبة واستقلال القضاء. ولذلك فإني أطمع كغيري من الحقوقيين والمهتمين بتحسين مستوى القضاء الإداري، أن يخطو ديوان المظالم في أحكامه خطوات أكثر شجاعة وفرضاً للرقابة الفاعلة على قرارات جهات الإدارة، وأن تؤسس أحكام الديوان في هذه المرحلة قاعدة ً متينة ً صلبة ً يبنى عليها قضاء ٌ إداري ٌ نفاخر به غيرنا من الأمم والدول، وهذه مسؤولية ٌ تاريخية ٌ عظيمة ٌ ليست منوطة ً برئاسة الديوان وإنما بقضاته. وفي هذا الصدد فإني أتمنى أيضاً أن تعيد رئاسة الديوان النظر في مسألة الاستعانة بالمستشارين القانونيين أو القضاة الإداريين السابقين من خارج المملكة، كما كان معمولاً به في الديوان في مراحل سابقة، وذلك للحاجة الماسة إليهم في المساعدة على صياغة الأحكام وتقديم الاستشارات ودراسة القضايا، لعدم توافر الكفاءات المتخصصة الكافية في ذلك من السعوديين، أو حتى بحث إمكانية الاستعانة بأساتذة القانون والشريعة في الجامعات، أو المستشارين القانونيين في الوزارات والأجهزة الحكومية ممن عرفوا بكفايتهم واقتدارهم، بنظام التعاون الجزئي، فنحن في مرحلة ٍ أحوج ما نكون إليهم في ظل التوسع في افتتاح فروع ديوان المظالم وزيادة تعيينات القضاة من الخريجين الجدد. وختاماً أسأل الله للجميع التوفيق والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني